ترجمة: رشا غزوان سالم
مُراجعة: حسن مازن
تصميم الصورة : حسام زيدان
إن أحد أكبر الأسئلة المطروحة في الفيزياء الحديثة هو: لماذا لم يدمر كوننا نفسه بتفاعل المادة مع المادة المضادة (1) منذ اللحظة الأولى لانبثاقه؟. للإجابة على ذلك، افتَرَض علماء الفيزياء وجود فرق أخر بين المادة والمادة المضادة، غير اختلاف الشحنة الكهربائية. مهما يكن هذا الاختلاف فهو كما يبدو لا يكمن في خصائصهما المغناطيسية. حيث نجح أحد علماء المنظمة الأوربية للأبحاث النووية (سيرن)(2) في سويسرا بعمل أكثر قياس دقيق للعزم المغناطيسي لبروتون مضاد، هو رقم يعبر عن كيفيّة تفاعل جُسيم مع قوة مغناطيسيَّة، وقد وجد أنها مساوية تماماً للقيمة لدى البروتون النظامي ولكن باشارة معاكسة.وقد نُشر العمل في دورية نيتجر.
وقد أفاد كرستين سمورا، وهو أحد العاملين في تجربة تناظر الباريون والباريون المضاد، أن ”كل ملاحظاتنا وجدت تناظر تام بين المادة و المادة المضادة، لهذا السبب أن الكون لا ينبغي أن يكون موجوداً“ ويضيف: ”لابد من وجود كسر للتناظر في مكان ما، لكننا بكل بساطة لا نعلم أين“.
تُعرف المادة المضادة بعدم استقرارها؛ حيث أن التقائها بمادة اعتيادية يؤدي إلى فنائها في انفجار، منتجةً طاقة نقيّة، وهو التفاعل الأكثر فعاليّة في الفيزياء. لهذا السبب تم اختياره كوقود لمحرك المركبة الفضائية في سلسة الخيال العلمي (ستار تريك). يتنبأ النموذج القياسي(3) أن الانفجار العظيم قد نتج عنه كميّة متساوية من المادة والمادة المضادة؛ هذا الخليط الحارق الذي كان سيُفني نفسه دون ترك أي شئ خلفة لتكوين المجارات أو الكواكب أو حتى البشر. لتفسير هذا اللغز، يلعب الفيزيائيون لعبة ”أوجد الفرق“ بين المادة والمادة المضادة؛ لايجاد أي تناقض قد يشرح سبب هيمنة المادة الاعتيادية على كوننا. حتى الآن نجحوا بالقيام بقياسات دقيقة لكل الخصائص مثل: الكتلة و الشحنة الكهربائية الخ، دون أن يجدوا أي اختلاف بعد.
في العام الماضي، قام علماء يعملون على تجربة (جهاز الليزر الفيزيائي لذرة الهيدروجين المضادة) في سيرن وللمرة الأولى بفحص ذرة هيدروجين مضادة باستخدام الضوء، مجدداً دون العثور على أي اختلاف مع ذرة الهيدروجين الاعتيادية. لكن كانت هناك ثابت معروف بقيمته متواضعة الدقة مقارنة مع غيره؛ وهو العزم المغناطيسيّ الخاصة بالبروتون المضاد. أخذ ستيفن أولمر وفريقه، قبل عشرة أعوام، على عاتقهم محاولة قياسه.
أولاً كان عليهم تطوير طريقه لقياس اللعزم المغناطيسيّ لبروتون اعتيادي. وقد نفذوا ذلك بعزل جُسيم بروتون داخل مجال مغناطيسي، واستحثاث قفزات كمومية خلال دورانه مستعينين بحقل مغناطيسي آخر. كانت عملية القياس هذه انجازاً رائداً بحد ذاته، و قد تم نشر تفاصيلها في دورية نيتشر عام 2014. كانت الخطوة التالية هي تنفيذ نفس عملية القياس على البروتون المضاد؛ وهي عملية تتضاعف درجة الصعوبه فيها بمعرفة أن البروتون المضاد سيفنى فور حصول تلامس بينه و بين أي مادة. لانجاز هذه المهمة استخدم الفريق المادة المضادة الأكثر برودة و الأطول عمراً على الاطلاق.
بعد توليد البروتونات المضادة عام 2015، استطاع الفريق تخزينها لأكثر من عام داخل عبوة خاصة، بحجم و شكل علبة رقائق البطاطس. نظراً لعدم وجود وعاء مادي يمكن أن يحفظ المادة المضادة، استخدم الفيزيائيون مجالات مغناطيسياً وكهربائياً لاحتواءها. تكون حياة المادة المضادة بالعادة محدودة نتيجة عيوب الخزن؛ قد تكون هناك بعض الاختلالات التي تسمح للمادة المضادة بالتسرب. لكن باستخدام شبكة عزل مزدوجة، استطاع فريق أولمر أن يصنع عبوة الخزن الأكثر مثالية على الاطلاق؛ فقد استطاعت حفظ المادة المضادة لمدة 405 يوم. هذا التحزين المستقر سمح لهم باجراء عملية قياس العزم المغناطيسي للبروتون المضاد. كانت النتيجة هي أن قيمة العزم المغناطيسي للبروتون المضاد مساوية تماماً لنظيرتها الخاصة بالبروتون الاعتيادي ولكن بعكس الإشارة.
تصل دقة عملية القياس تلك إلى تسعة خانات رقمية أي انها ذات دقة عالية، بما يعادل قياس محيط الأرض مع وجود نسبة خطاً لاتتجاوز بضع سنتمترات، وهي الأكثر دقة ب350 مرة من أي عملية قياس تمت سابقاً. وقد أفاد أولمر بأن: ”هذه النتيجة هي تتويج لسنوات من البحث والتطوير المستمرين، وهي اتمام ناجح لاحدى أصعب عمليات القياس التي تم تنفيذها على الاطلاق“.
و تستمر أعظم لعبة ”أوجد الفرق“ في الكون. التجربة المثيرة التالية التي يُتَرقب انجازها هي في مختبرات، حيث يقوم علماء سيرن بدراسة تأثير الجاذبية على المادة المضادة؛ محاولين بذلك الاجابة عن السؤال فيما اذا كانت المادة المضادة تتحرك للأعلى بتأثير الجاذبية!
هوامش وتعليقات المُترجِمة:
(1) المادة المضادة هي مادة يُعتقد بأنها تتشابه مع المادة الاعتيادية بكل شيء ما عدى الشحنة الكهربائية فالإلكترون المضاد (البوزيترون) يمتلك شحنة موجبة على سبيل المثال.
(2) المنظمة الأوربية للأبحاث النووية (سيرن): هي منظمة أوربية مرموقه للغاية ومعروفة لتنفيذها تجارب في مجال الأبحاث النووية. سيرن معروفة بتجاربها على مصادم الهيدرونات الكبير الذي ساهم بالكشف عن جسيم هيغز قبل عدة سنوات، مُجيباً على واحد من الأسئلة المحيرة في الفيزياء: ”لماذا نمتلك كتلة؟“
(3) النموذج القياسي: هو وصف رياضي للجسيمات الأولية للمادة والقوى المغناطيسية والقوى النووية الضعيفة والقوية والعلاقة بينهما.
المصدر هنا