ترجمة: سامر حميد
تدقيق: مصطفى شهباز
تصميم: مكي السرحان
عندما تنظر في كل مكان – حتى في المرآة – فإنك سترى تراكيب متلألئة تحدق بك تعرف بــ”العيون”، فجميع أنواع الحيوانات تعتمد على هذه التراكيب للإحساس بالحركة في بيئاتهم، من النظر الحاد عند الصقور التي تطارد فرائسها من القوارض الصغيرة، والنظر في اختيار الشريك الملون والزاهي عند الفراشات، إلى الاختباء المفاجئ للأخطبوطات التي تطلق سحابة من الحبر لتموه مفترسها. لذلك تعتبر هذه التراكيب مفيدة جداً بشكل هائل. ولكن لماذا العين بالتحديد؟ وكيف ظهرت وتطوُّرت في العديد من الحيوانات؟ ولماذا تبدو مختلفة إلى هذا الحد؟
سنحاول في هذا المقال التعرف على الإجابة المناسبة لهذه التساؤلات التي تبدو معقدة بعض الشيء، وسنتحقق في الكيفية التي تطوُّرت من خلالها بعض التراكيب المختلفة في عيون الكائنات الحية، وكذلك الإجابة على التساؤل حول التشابه في آلية عملها وبالأخص في مفهوم التماثل “Homology“( التشابة المتوارث من السلف المشترك ) الذي يمكن أن ينشأ في أماكن مثيرة للدهشة، موضحًا بذلك التنوع الهائل ووحدة الحياة (الصفات المشتركة للحياة بكل صورها المختلفة ) .
أشكال العيون المختلفة في الكائنات المتعددة
العيون المتنوعة
أن جميع أنواع العيون تملك خلايا حساسة للضوء، ولكنها في نفس الوقت تعمل بطرق مختلفة: فالعيون في ديدان التربلاريا ” الدواميات Turbellaria” تكون على شكل كأس بصري بسيط(تجمع للخلايا الحساسة للضوء) وفيه تمنع الخلايا الصبغية(وهي بمثابة درع واقٍ للمستقبلات الضوئية تقوم بإفراز مواد صبغية لها القدرة على امتصاص الضوء في موجات ضوئية معينة) الضوء من الدخول إلى العين في اتجاهات متفرقة، و تسمح بمروره فقط في اتجاه واحد ، والذي بدوره يؤدي إلى دخول الضوء وصولاً للمستقبلات الضوئية. هذا النسق لايتيح للكائن تكوين صورة للأشياء، ولكنه يساعد في تمييز مصدر الضوء وكثافته.
اما بالنسبة الى العيون في البشر فتعمد على العديد من الآليات،ؤ فهي تعتمد على تراكيب مسؤولة بشكل أساسي على تركيز الضوء الداخل الى العين، تعرف بـ (العدسة والقرنية) ، وكذلك تعتمد على حركة (القزحية ) التي تتحكم في كمية الضوء المارة إلى (الشبكية) تماماً مثل عمل غالق الكاميرا. بالإضافة إلى العديد من الخلايا الحساسة للضوء في الجزء الخلفي لمُقلة العين ، وفيه تجمع المعلومات وترسل إلى المراكز البصرية المتنوعة داخل الدماغ من خلال العصب البصري. هذا النسق يساعد في تكوين الصور المجسمة في العديد من الحيوانات.
بينما تتألف العيون في ذبابة الفاكهة “Fruit Fly“ من مئات الوحدات البصرية الحساسة للضوء تعرف بــ “العُديسات Ommatidia” , و تتكون العُديسة الواحدة من مجموعة مستقبلات ضوئية، بينما تقوم الخلايا الصبغية المحيطة بفصل كل عديسة عن العديسات المجاورة، وتمنع دخول الضوء في اتجاهات مختلفة، ويقوم الدماغ بجمع هذه المعلومات القادمة من الوحدات المختلفة ليشكل صورة واحدة.
كذلك يوجد مثل هذا النسق من العيون المركبة في العديد من الكائنات الحية المختلفة وبالأخص القشريات البحرية واهمها قريدس المانتيس Stomatopoda”“.
كيف تعمل العين؟
تستطيع مع كل طرفة عين واحدة -بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة- أن تراقب وتستجيب للمحفزات البصرية القادمة من شاشة حاسوبك، أو من سيارة قادمة في الاتجاه المعاكس بسرعة البرق، ولكن كيف تعمل عينك بهذه الطريقة؟
تتألف العين البشرية من الجزء الملون والذي يعرف بالقزحية، والتي تمنع دخول الضوء إلى العين من اتجاهات متعددة من خلال التحكم في حجم حدقة العين “البؤبؤ” وهو الجزء الأسود المتمركز في وسطها، يسمح بمرور الضوء إلى الداخل من خلال عدسة العين والتي تساعد بدورها بتركيز الضوء الداخل إلى الشبكية في الأجزاء الخلفية من العين، حيث تحتوي الشبكية على خلايا مستقبلة للضوء ” Photoreceptor “وصبغات خاصة لها القدرة على امتصاص الطاقة الضوئية وتحويلها إلى إشارات كهربائية ترسل من خلال أعصاب مختصة إلى الدماغ, وفي نهاية المطاف يقوم الدماغ بتجميع هذه الإشارات المتعددة والقادمة من المستقبلات الضوئية المختلفة ليكون الصورة.
أجزاء العين البشرية
قد تعرضت العيون في الفقاريات إلى تكيفات معقدة أدت إلى تطوُّرها على مدى ملايين السنين شبيهة بالتكيفات المعقدة الأخرى التي طرأت على هذه الكائنات والتي لا تزال تحملها بشكل علامات بارزة في تاريخها التطوُّري, حيث امتلك السلف الأقدم للفقاريات”الشبيه بالأسماك” مستقبلات ضوئية غير موجهة باتجاه الضوء الوارد إليها، حيث يتم امتصاص الضوء من قبل الصبغات المتواجدة في الجزء الخلفي من الخلية، وهذا يعني بأنه قد تم عكسها إلى الخلف “بعيداً عن مصدر الضوء ” بينما تعمل أليافها في الجزء الأمامي القريب من الضوء.
اتجاة الخلية المستقبلة للضوء الى الخلف من مصدر الضوء
وقد ورثنا من أسلافنا المشتركة للأسف نفس نوع هذه الخلايا المستقبلة للضوء، والذي قد تسبب لنا ببعض المشاكل، ونتيجة لهذا فإن الألياف العصبية التي تخرج من تلك الخلايا والتي تحمل الإشارات البصرية إلى أدمغتنا يجب أن تمر من أمام الشبكية . وبما أنها شفافة فهي لا تعترض طريق الضوء القادم لرؤيتنا, ولكن عندما تخرج من العين وتصل إلى الدماغ فإنها تتجمع ببقعة في الجزء الخلفي من العين تعرف بالقرص البصري، ويعتبر بمثابة نقطة الخروج لمحاور تلك الخلايا الخارجة من العين. لذلك تصبح نقطة الخروج تلك مكتظة بالعديد من الأعصاب، بحيث لا توفر أي مساحة للخلايا المستقبلة للضوء، والتي بغيابها لايمكن للقرص البصري الإستشعار بالضوء الذي يدخل إليه، وبهذا تتشكل بقعة عمياء في ذلك المكان‘ وكما هو موضح بالشكل التوضيحي :
ومن المثير للاهتمام، أن الأخطبوط وحبار السبّيط “ومعظم اللافقاريات” قد امتلكوا هذا النسق من الترتيب للتراكيب العينية من خلال التطوُّر التقاربي (تطور صفة متماثلة في سلالتين منفصلتين وراثياً)، بالإضافة إلى كبر حجم العين والتي تحتوي على العدسة والقزحية مع ردهة داخلية كبيرة – كما موضح بالشكل التوضيحي أدناه – والتي توفر رؤية ممتازة، ولكنها في نفس الوقت لاتعاني من تلك المشكلة التي نواجهها، فهذه الخلايا المستقبلة للضوء تتجه إلى الأمام نحو مصدر الضوء وتخرج الألياف العصبية من الجهة الخلفية للعين، لذلك فهي لا تعترض طريق الضوء القادم ولا تشكل بقعة عمياء.
نسق الرؤية المختلفة عند الكائنات الحية :
هل يوجد هناك صلة وراثية مترابطة بين العيون المتنوعة؟
إن تراكيب العيون المتنوعة للعديد من الحيوانات شديدةُ التباين، إلا أنها تشترك جميعها بالقدرة على الإحساس بالضوء، فهي تمتلك خلايا مستقبلة للضوء تعرف بـ” المستقبلات الضوئية” تنقل هذه المعلومات إلى الدماغ أو إلى التجمع العصبي، وتعمل بطرق متشابهة، ولكن لماذا هذا التشابه رغم التباين الحاصل؟
والجواب على هذا التساؤل من مفهوم التطوُّر يعتمد على تفسيرين أساسيين للتراكيب المتشابهة وهما:
التماثل Homologies: وهو عبارة عن خصائص أو صفات متماثلة يشترك فيها اثنان من الكائنات الحية نتيجة لتوارثهما لهذه الصفة من سلفيهما المشترك -بمعنى تطوُّر صفة متماثلة في سلالتين متقاربتين وراثيا – فمثلاً : تعتبر الأجنحة في الحمام والنعام صفة متماثلة على الرغم من فعالية هذه الصفة، فالأجنحة عند الحمام تساعدها في الطيران، بينما النعامة لا تستطيع الطيران، ولكنهما ورثا هذه الصفة من السلف المشترك الذي كان يمتلك الأجنحة.
التجانس Analogies : وهو عبارة عن خصائص أو صفات متماثلة يشترك فيها اثنان من الكائنات الحية نتيجة للتطوُّر المتقارب -بمعنى تطوُّر صفة متماثلة في سلالتين منفصلتين وراثياً – فمثلا : الأجنحة في الحمام والفراشات هي متشابهة وظيفيا، ولكنها تطوُّرت في سلالة الطيور وسلالة الحشرات بشكل مستقل تماماً.
إذا فالتراكيب المتماثلة ““Homologous ما هي إلا أنعكاسٌ لصفات السلف المشترك في الكائنات الحية الحالية. ونتيجة لتشارك الحمام والنعام بسلف مشترك واحد، فإن أجنحتها متشابهة بشدة على المستوى الهيكلي. وفي ذات الوقت تظهر الإختلافات في الحجم، الشكل ولون الأجنحة مدى التنوع الحاصل للمسار التطوُّري الفريد من نوعه لدى سلالات الحمام والنعام منذ انفصالهما عن سلفهما المشترك.
ولمعرفة ما إذا كانت بعض هذه التراكيب التشريحية متماثلة أو غير متماثلة، يقوم العلماء من خلال بعض المعايير الأساسية بتقييم بعض الأدلة من ميادين علمية مختلفة ومنها:
- تشابه الموضع:
هل تشتق هذه التراكيب المتماثلة في نفس الجزء من جسم الكائن الحي؟
تقع أجنحة الحمام والنعام في أجزاء متشابهة من جسميهما، أسفل الرقبة ومتصلة بحزام الكتف، بينما تقع أجنحة الفراشة على القطع الجسمية الثانية والثالثة من الصدر‘ خلف أول زوج من الأرجل.
- . تشابه المكونات:
هل تتكون هذه التراكيب من نفس أنواع الخلايا والأنسجة؟
إن أجنحة الطيور والنعام مكونة من تراكيب متماثلة تضم عظامًا متشابهة وعضلاتٍ قوية وتكون مغطاة بالريش، بينما تمتلك أجنحة الفراشات تراكيب مختلفة تماماً، فهي مكونة من العديد من الأوردة على شكل سقالة، تمتد على شكل أغشية رقيقة، وتكون مغطاة بحراشف ناعمة.
- تشابة مراحل النمو الجنيني:
هل تمتلك هذه التراكيب نمطاً متشابهاً في مراحل النمو؟
تمتلك أجنحة الحمام والنعام مراحل نمو متشابهة تماما عندما كانت في بيوضها، بينما تمتلك أجنحة الفراشات مراحل نمو مختلفة،فهي نمت من أنسجة متخصصة من عملية التحول الشكلي “Metamorphoses” لليرقات غير المجنحة إلى الفراشات البالغة ذوات الأجنحة.
نستنتج من هذه المعايير الثلاثة بأن أجنحة الحمام والنعام هي تراكيب متماثلة” “Homologousبينما تعتبر أجنحة الطيور والفراشات هي تراكيب متجانسة “Analogous” – متشابهة وظيفياً فقط نتيجة للتطوُّر المتقارب – بمعنى أنها لا تتطابق مع هذه المعايير.
إيجاد التراكيب المتماثلة “ Homologous “في العيون.
لكي نستطيع أيجاد التراكيب المتماثلة في التنوع الحاصل على العيون نحن بحاجة للإجابة على ثلاثة أسئلة أساسية وهي:
- هل تشتق في نفس الجزء من جسم الكائن الحي؟
- هل تتكون هذه التراكيب من نفس أنواع الخلايا والأنسجة؟
- هل تمتلك هذه التراكيب نمطاً متشابهاً في مراحل النمو؟
والآن الأمر متروك لك لكي تتحرى عن هذه التساؤلات في الأمثلة الخمسة السابقة: فمن برأيك يمتلك تراكيب متماثلة؟ ومن يمتلك أفضل موضع، مكوناتن مراحل نمو من هذه الكائنات ياترى؟ لاحظ الرسوم التالية في الأشكال التوضيحية :
الأديم الظاهر Ectoderm وهو الطبقة الخارجية من طبقات التبرعم “Germ Layer” والمكونة بمجموعة من الأنسجة التي تنتج من عملية التكوين الجنيني والمسؤولة عن إنتاج الجهاز العصبي (الدماغ) بالإضافة إلى الجلد وبعض تراكيب العيون. وتشكل الطبقات الأخرى والمتمثلة ب “الأديم المتوسطEesoderm والأديم الخارجي ” Endoderm بقية أجزاء الجسم الأخرى.
فإذا كانت إجابتك بأن عيون أسماك القرش وعيون الفئران هي تراكيب متماثلة، فهي صحيحة تماماً، على الرغم من العديد من الإختلافات التي بينهما، كالرؤية في البيئة المائية، والرؤية في البيئة البرية، وكذلك بين الرؤية كحيوان مفترس والرؤية كحيوان آكل للجيف وبقايا الغذاء. ولكن أسماك القرش والفئران أكثر قرابة، فكلاهما من الفقاريات، ويشتركان بالعديد من التراكيب التشريحية المتماثلة “كالعمود الفقري مثلاً”.ستوضح الشجرة الفيلوجينية المعتمدة على الصفات التشريحية والوراثية للسُلالات في الشكل التوضيحي أدناه
العلاقات التطوُّرية لعمليات الرؤية في الكائنات الحية المختلفة
لاحظ صلة القرابة التي تربط بين أسماك القرش والفئران، فالبرغم من إمتلاك أسماك القرش والحبّار عيونا متكيفة للرؤية المائية في المحيطات، إلا أنهم لا يملكون صلة قرابة وثيقة، فلهذا تعتبر عيونهم تراكيب متجانسة “تخدم نفس الوظيفة فقط”، وعلى نحو مماثل تبدو عيون الحبّار وعيون الفئران متشابهة، فالبرغم من إمتلاكها لنفس النسق التركيبي إلا أنها تعتبر تراكيب متجانسة أيضاً نتيجة للتطوُّر التقاربي، لذلك ورثت أسماك القرش والفئران “الفقاريات” تراكيب عيونهم من سلف مشترك يربط بينهما خلافاً للكائنات الأخرى المتبقية من مثالنا السابق والتي تطوُّرت فيها العيون بشكل مستقل، وفي الواقع تُظهر شجرة الحياة تطوُّر العيون المعقدة بشكل مستقل في مراتٍ عديدة.
ولكن يؤخذ بعين الإعتبار أوجه التشابه الأساسية للعيون المتجانسة على الرغم من الأصول التطوُّرية المتباعدة، فجميع العيون المتطوُّرة على شجرة الحياة يمكنها الإستشعار بالضوء وتستخدم من قبل الكائنات الحية لمعرفة المزيد عن بيئاتهم، فهي تشترك بنفس أنواع الخلايا التي تحتوي على جزيئات خاصة للإحساس بالضوء بالإضافة إلى العديد من الخصائص المشتركة، ولكن ماهذه الخصائص ياترى؟
ولكن قبل الإجابة على هذا التساؤل، دعونا نتعرف كيف يتم بناء العيون؟ ونلقِ نظرة على مراحل التكوين الجنيني للعين في أحد أفراد الفقاريات “الفئران”:
كيف يتم بناء العيون؟
يحتوي الحمض النووي DNA الخاص بالكائن الحي على الوحدات الأساسية للوراثة والتي تعرف ب الجينات (المُورثات)، والتي بدورها تستطيع التحكم بجميع المعلومات اللازمة لتوضيح أين ومتى وكيف يمكن لصفات محددة أن تنمو في جسم هذا الكائن. فالحمض النووي الـDNA يعمل كمخطط أولي لبناء أجزاء مختلفة في الجسم, وتعد الجينات جزءًا من هذا المخطط، فهي تحمل معلومات ضرورية لصنع البروتينات اللازمة لخلايا هذا الكائن، والتي تستخدمها كمواد خام لصنع الهيكل الخارجي للمخطط الأولي “الحمض النووي DNA” وهكذا، وفي الواقع يوجد هناك بعض الجينات التي تُشفر بروتينات معينة لتنظيم عمل الجينات الأخرى تعرف بالـ”جينات السيطرة, أو الجينات التنظيمية” حيث تقوم هذه الجينات بالتفاعل مباشرة مع أجزاء مختلفة من الحمض النووي وتؤدي إلى تشغيل أو إطفاء بعض الجينات المختلفة، أو قد ترتبط مع بروتينات أخرى تؤثر على هذه العملية, ولهذا تكون هذه البروتينات الخاصة أشبه برئيس العمل, فهي من تحدد الاحتياجات اللازمة والبروتينات الإضافية “العمال” لإنجاز مهمة معينة في الخلية. وبعضها قد يكون قويا بما فيه الكفاية لإعطاء أوامر لبناء العين في هذا المكان، أو وضع الساق في ذلك المكان.
وعندما تم دراسة مراحل التكوين الجنيني لعيون الفئران بشكل عميق، اكتشف العلماء وجود جين يعرف بـPax6 مسؤول عن تكوين العيون عند الفئران. فعندما يتم تفعيله أو التعبير عنه في مراحل التكوين الجنيني للفئران تبدأ مراحل النمو الجنيني للعيون بالعمل الفعلي. وعندما قام العلماء بمحاولة تعطيل تسلسل الحمض النووي لهذا الجين من خلال إحداث طفرة معينة كانت النتائج في نهاية المطاف تكوِّنَ فئران مع عيون صغيرة جداً أو فئران من دون عيون أساسا، مما دفع العلماء إلى تسميته بجين العين الصغيرة “Small eye gene“. إذا تشير هذه الأدلة الرصينة بقوة إلى أن جين Pax6 يشترك في بناء عملية العيون لدى الفئران بشكل أساسي، بمعنى أنها تبدو واحدة من تلك الجينات التنظيمية التي تسيطر على المراحل النمائية لتطوُّر العين في الفئران، فعندما يعمل هذا الجين فإنه يبدأ بإرسال توجيهات محددة إلى جينات أخرى لكي تقوم ببناء العين.
إذاً يعتبر جين Pax6 بمثابة رئيس العمل. ولكن كيف يتحكم تحديداً بما تفعله باقي الجينات الأخرى؟ وللإجابة على هذا السؤال يجب علينا معرفة التركيز على بعض الجوانب الوراثية المهمة “من دون ذكر بعض التفاصيل المعقدة” ومنها:
- يحتوي الحمض النووي في نواة الخلية على معظم جينات الخلية، بما في ذلك تسلسل جين Pax6.
- يمكن للمعلومات الوراثية مغادرة النواة على شكل رسائل RNA فقط “والموضحة باللون الأحمر أدناه “، لذلك عندما يتم التعبير عن الجينات أو تشغيلها فسيتم نسخها من الحمض النووي DNA على شكل رسائل في الحمض النووي الريبي RNA . وعلى نحو مماثل يحدث مع جين Pax6 فيجب على الخلايا عندما يتم التعبير عنه تكوين تلك الرسائل أولاً، والتي تعتبر مكملة لتسلسل الحمض النووي DNA الخاص بجين Pax6 .
- يتم التعديل على هذا الجين الخاص بـ Pax6 من خلال الـRNA المرسال لكي تتمكن من البقاء خارج النواة، لتعبر بعد ذلك الغشاء النووي في سيتوبلازم الخلية.
4.تساعد بعض التراكيب الخلوية والتي تعرف بالريبوسومات “الموضحة باللون الاصفر أدناه ” على تحويل المعلومات الواردة من الـRNA المرسل إلى البروتين، وتعرف هذه العملية بـالترجمة “Translation” – وهي عملية فك شفرات جزيء الـ RNA المتكون من قواعد نيكليوتيدية إلى أحماض أمينية تدخل في تركيب البروتينات -.
- يطلق على البروتين الذي يقوم بتشفير جين Pax6 بـ عامل نسخ “Transcription Factor“ وهو بروتين فعال جداً ويقوم بوظائف معقدة عديدة، فبدلاً من المساعدة على بناء التراكيب الخلوية المنطوية على العمليات الخلوية العادية، يدخل هذا البروتين إلى داخل النواة ويساعد في عملية توجيه التعبير عن الجينات الأخرى.
- يرتبط بروتين Pax6 مع الحمض النووي الــ DNA داخل النواة , ويُخبر الجينات الأخرى هناك بالبدْء في تكوين البروتينات الخاصة بعملية صُنع العيون.
إذا تعتبر جينات Pax6 هي المسيطرة على الجينات الأخرى التي بجانبها، بواسطة تشفير بروتين يربط بالحمض النوويDNA والذي يتحول بدوره إلى الجينات الأخرى أو إلى جينات التوقف .كذلك توجد هناك مُورثات مسيطرة أخرى تشارك في العمليات النمائية لمختلف أجزاء الجسم.
التشابه الهائل
إذاً بعدما تعرفنا على الوظيفة الأساسية لجين Pax وكيفية مشاركته في تكوين العيون في الفئران، فمن المتوقع أن نلاحظ عمله في باقي الفقاريات المختلفة (والمتمثلة بالبشر وأسماك القرش) والتي تمتلك عيون تشريحية متماثلة. وفي الواقع لقد كان هذا التوقع صحيحا بالفعل فالجين المسؤول عن التكوين والنمو الجنيني للعيون عند البشر والذي يعرف بجين “غياب القزحية“ أو (“Aniridia أنيريديا) يمتلك نفس تسلسل الحمض النووي الخاص بــجين Pax6. ومع ذلك فقد لا يكون ذلك مثيراً للاهتمام، ولكن هل يبدو الأمر مشابها في كائنٍ حيٍّ آخر كذباب الفاكهة مثلاً والتي تمتلك عيونا مركبة مع وحدات صغيرة للإحساس بالضوء والتي لاتشابه عيون الفقاريات؟
في الواقع لا يبدو الأمر كذلك، وقد يكون الأمر صادماً نوعاً ما، ولكن قام بعض العلماء بإدخال جين الــPax6 الخاص بالفئران إلى المحتوى الوراثي لذباب الفاكهة، فماذا كانت النتيجة ياترى؟ وهل كانت متشابهة وراثياً أو لا؟
قبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نلقي نظرة على تسلسل الحمض النووي لمعرفة ذلك. ويجب أن نتذكر بأن شفرة الحمض النووي تتكون من 4 قواعد وهي :الأدينين”A adenine“، الثايمين“T thymine“، الجوانين“G guanine“، السايتوسين“C cytosine“.
لماذا هذه السلاسل متشابهة وراثيا؟ وما الذي يمكن أن تفعله هذه المُورثات الغامضة إذا ماتم نقلها للذباب؟ وهل من الممكن أن تحافظ على نفس الوظيفة في الذباب (بناء العيون )؟
ولمعرفة الأجابة على هذه التساؤلات أنت بحاجة إلى أن تنظر إلى أبعد من التسلسل الوراثي، فارتدِ معطفك الأبيض وتعالَ معنا لكي تعمل كعالم أحياء نَمَائِي -دراسة العملية التي تنمو وتتشكل فيها الكائنات الحية- في داخل المختبر :
حل اللغز الوراثي
يجب عليك أولاً وقبل كل شيء دراسة نتائج ثلاث تجارب أساسية لمعرفة ما الذي يمكن أن تفعله تلك الجينات على الذباب؟
التجربة الأولى: ستعرفنا على ما يحدث عندما نقوم بتعطيل تلك الجينات بواسطة طفرة معينة؟ بينما ستكون التجربة الثانية : لتوضيح أين ومتى يتم التعبير “تشغيل ” تلك الجينات؟ وأخيراً ستكون التجربة الثالثة : في معرفة ما الذي سيحدث إذا تم وضع هذه الجينات في مكان غير متوقع.
فاذا كانت هذا الجينات مسؤولة فعلاً عن نمو العيون في الذباب فما الذي نتوقعه عندما نقوم بتعطيلها بواسطة إحداث طفرة معينة، وهل ستبقى محافظة على وظيفتها المعتادة؟
سنتوقع بأنها لاتعمل بشكل طبيعي مع وجود بعض المشاكل في عملية تطوُّر العيون الطبيعية، فالمصباح الكهربائي لا يعمل بشكل جيد إذا كان المحول الكهربائي معطلا. وعندما حاول العلماء القيام بهذه التجربة وجدوا التالي:
كان الذباب مع الجين الاعتيادي يمتلك عيون حمراء كبيرة، لكن عندما تم تعطيل هذا الجين كان الذباب فاقداً للعيون بشكل كامل. ولقد أطلق عليه العلماء تسمية (جين الــلا عين “Eyeless“) , إذاً تطابقت نتائج تجربتنا مع فرضيتنا التي توقعناها في التجربة الأولى – هذه الجينات هي المسيطرة على مراحل نمو عيون ذباب الفاكهة -.
ولننتقل الآن إلى التجربة الثانية أين ومتى يتم التعبير “تشغيل” عن جين الــلا عين “Eyeless“ ياترى؟ سنتوقع أن يتم التعبير عنه قبل أن تبدأ مراحل تطوُّر العيون بالعمل , ولحسن الحظ، تمكن علماء الأحياء من وضع علامات خاصة لتمييز عمليات النمو الجنيني ولملاحظة أين ومتى بالضبط يتم التعبير عنه, فوجدوا أن جين الــلا عين “Eyeless“ يتم التعبير عنه أو تشغيله في أماكن على الرأس حيث تكون عيون الذباب على وشك البدء بمراحل النمو الجيني , تبدو الأمور جيدة إلى حدٍّ ما الآن .
وأما في التجربة الثالثة ما الذي سيحدث إذا تم وضع هذا الجين في مكان غير متوقع . هل سيكون هذا كائنا مشوهًا ياترى؟ تمكن علماء الأحياء أيضا من دراسة هذا الجين بعدما وضعوه في أماكن غير متوقعة في مراحل النمو الجنيني للكائن الحي، وقد ساعدهم هذا في معرفة المزيد من التفاصيل عن هذا الجين في الظروف العادية وغير العادية، فإذا كان جين اللا عين لا يقوم بإرسال أوامر لبناء العين، ماذا ستتوقع أن يحدث إذا تم التعبير عنه في مراحل النمو الجنيني على ساق الذبابة مثلا؟
وبالفعل قام العلماء بهذه التجارب مرات عديدة وكانت النتائج منسجمة تماما مع التوقعات، فعندما يتم التعبير عن الجين فإنه سوف تتكون عين للحشرة ولكن على ساقها!
سنستنج من هذه التجارب بأن جين اللا عيون يلعب دوراً مهماً في توجيه مراحل نمو العيون لذباب الفاكهة تماما مثل جين Pax6، وهو أمر حاسم في مسألة تطوُّر العيون في الفئران، وكذلك مورثة غياب القزحية عند البشر، هذه الجينات قوية بما فيه الكفاية ليتم تشغيل الجينات الأخرى التي بجوارها لتتم عملية النمو الجنيني للعيون.
الجينات المتماثلة Homologous
لقد لاحظنا سابقاً التسلسل والوظيفة المتماثلة لجين Pax6 الخاصة بالفقاريات وكذلك جين الـلا عين الخاصة بذباب الفاكهة؟ لكن ماذا عن باقي العيون في الكائنات المختلفة كالحبار والديدان المسطحة؟ فبالرغم من الاختلافات الكبيرة في تراكيب العيون الخاصة بهم إلا أنهم يمتلكون نفس الجين Pax6. وفي هذه الجينات المتقابلة والموضحة في الصورة أدناه يوجد هناك تطابق في أجزاء معينة من جين Pax6 والموضحة باللون الاخضر:
هناك تفسيران أساسيان لهذه الجينات المتشابهة عند الحيوانات المختلفة، وهما “التماثل والتجانس”- وكما تم توضيحهما في السابق – فالجينات المتماثلة هي ما تم تمريره من السلف المشترك إلى هذه الكائنات الحية المختلفة، وأما الجينات المتجانسة فهي كل ماتطوُّر بشكل مستقل من خلال التطوُّر التقاربي. واستناداً إلى الملاحظات التي تم رصدها من خلال التسلسل الوراثي المتماثل -لجميع الحيوانات في شجرة الحياة الموضحة سابقا- استنتج العلماء بأن هذه الجينات تم توارثها من سلف مشترك واحد لكل هذه الحيوانات المختلفة, ومن المستبعد إلى حد كبير أن تكون قد طورتها بشكل مستقل تماما لتأدية نفس المهام. وحسب مبدأ التبسيط (شفرة أوكام) فإن الجينات التي تطوُّرت منذ فترة طويلة وتم تمريرها إلى هذه السُلالات المختلفة هو التفسير الأفضل لهذه المسألة.
فالنسخة السلفية لجين Pax مثلاً – وجميع الجينات الأخرى- الخاصة بالسلف المشترك قد تطوُّرت على الأرجح قبل أكثر من 500 مليون سنة، وقد طورت السُلالات المنحدرة من ذلك السلف من هذه الجينات المسؤولة عن بناء العين، حيث تم التعديل عليها بطرق عديدة وعبر سلالات مختلفة إلى أن وصل الأمر إلى جين Pax6 في الحيوانات الحديثة.
تطوُّر عيون مختلفة من جين واحد
نحن نعلم بالفعل أن عيون هذه الكائنات -الموضحة أدناه- لاتعتبر تراكيب متماثلة، وفي نفس الوقت نعرف أن الجين المسؤول عن نمو هذه العيون هو جين متماثل، إذًا كيف يفسر هذا الشيء؟
تخيل عندما تقوم بوضع مصباحين كهربائيين في مكانين مختلفين أحدهما في الحديقة والآخر في الكراج وتربطهما على نفس المفتاح الكهربائي، كل واحد منهما سيقوم بعمل مختلف عند تشغيل المفتاح “فأحدهما سيضيء الكراج والآخر سيضيء الحديقة” فهما يعملان سويا نتيجة لربطهما على نفس مفتاح التشغيل والأطفاء. وفي حالة تطوُّر العيون يحدث شيءٌ من هذا القبيل:
- طوّر السلف المشترك لمعظم تلك الحيوانات الحديثة قبل حوالي 500 مليون سنة النسخة السلفية لجين Pax6 مثلاً والذي يعتبر بمثابة “المفتاح الكهربائي الواحد” حيث شارك هذا الجين في بناء أبسط أنواع العيون المكونة من خلية واحدة مستقبلة للضوء, وكذلك خلية صبغية واحدة، أو لربما ساعدت في بناء البروتينات الحساسة للضوء.
- مرّر السلف المشترك هذا الجين إلى السُلالات المنحدرة منه.
- بدأت بعض تلك السُلالات المنحدرة تعيش في بيئات مضيئة أكثر من السابق، مما جلعها أكثر استجابة للضوء، لذلك أنتقت القوى الإنتخابية بعض الأفراد الذين تطوُّرت لديهم الجين المسؤولة عن بناء العيون الأكثر تعقيدا
وإحساسا ً للضوء من تلك الكائنات المختلفة .ومع مرور الوقت تطوُّر عند هذه الكائنات نوع واحد من العيون المعقدة “كعيون المركبة عند الذباب” والتي تم تشغليها على ال سُلالة المنحدرة قبل النسخة السلفية للجين , وفي الوقت نفسه بدات حيوانات آخرى تعيش في بيئات مختلفة ضوئيا ًمما ادى إلى تطوُّر عيون معقدة خاصة بهم “كعيون الفئران مثلاً” والتي تم تشغيلها على السُلالة المنحدرة من قبل النسخة السلفية للجين أيضاً.
وبهذه الطريقة طوّرت سلالات مختلفة ” كالفئران وذباب الفاكهة” تراكيب متجانسة ومعقدة مسيطر عليها من قبل نفس الجين المسؤول عن بناء العيون.
المستويات المختلفة للتراكيب المتماثلة
يمكن دراسة التراكيب المتماثلة في مستويات مختلفة، وفي ما يتعلق بتطوُّر العيون فقد نلاحظ أمرين مختلفين عن بعضهما البعض، حيث تشترك العديد من الكائنات الحية بالعيون المتماثلة والمسيطر عليها من قبل جين واحد “كما هي موضحة في الشجرة أ”، في حين تمتلك القليل من السُلالات تراكيب متماثلة ومعقدة “وكما هي موضحة في الشجرة ب”.
تطوُّر التعقيد
قد تبدو عيون الحبّار والإنسان وذباب الفاكهة وكأنها سلسلة من القطع الهندسية بالغة التعقيد، ولكن عند دراسة وملاحظة المراحل المتماثلة في داخل تلك العيون نجد أنها يمكن أن تساعدها على فهم كيفية تطوُّرها إلى تراكيب معقدة. فكل خطوة من تلك المراحل تتضمن جزءاً قليلاً من التعقيد بالإضافة إلى تحسن طفيف في النسخة السلفية للعين, والتي تم انتقاؤها من خلال الانتخاب الطبيعي. فمثلاً تخيل السلف الأقدم الشبيه للديدان الحديثة, والذي يعتبر واحداً من أقدم الكائنات الحية التي امتلكت جهازاً عصبياً بدائياً وكذلك النسخة السلفية لجين Pax6 المشارك في بناء البروتينات الحساسة للضوء، خلافاً لباقي منافسيها الذين فقدوا لهذه التغييرات الحديثة الحاصلة, حيث امتلك هذا الكائن قدرة بسيطة على الإستشعار بالضوء الوارد من البيئة المحيطة به، حيث مكنته هذه القدرة من الحصول على موارد غذائية أفضل وكذلك الغوص العميق في قاع المحيطات هرباً من الحيوانات المفترسة. لذلك لم يمتلك هذا السلف أي شيء عجيب أو معقد مثل العيون المتواجدة في أغلب الحيوانات الحديثة اليوم، ولكن وبالرغم من هذه القدرة البسيطة للإحساس بالضوء إلا أنها أعطته ميزة أو صفة إضافية عن باقي الكائنات الأخرى في ذلك الوقت, والتي تم تمريرها إلى السُلالة التي انحدرت منه.
حدث بعد ذلك لبعض السُلالات المنحدرة من ذلك السلف تطوُّر لأنسجة العين ( والتي قد تتضمن شكل عدسة العين) بالإضافة إلى المستقبلات الضوئية وبعض الخلايا الصبغية ( لتصبح أكثر تخصصا)، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تكيفات في القدرة على الإحساس بالضوء والتي أتاحت لهم تكوين صورة بسيطة للأجسام التي من حولها، مما ساعدها على كشف فرائسها بسهولة.
ومرة أخرى لا تعتبر هذه الميزات التكيفية الجديدة الشبه معقدة للعيون اكثر تعقيداً من العيون المتواجدة في أغلب الحيوانات الحديثة اليوم ” كالحبّار مثلاً ” والتي مُررت أيضاً إلى السُلالات المنحدرة وهكذا.
وفي نهاية المطاف تطوُّرت العيون لتصبح أكثر تعقيداً في تلك السُلالات المنحدرة، ولتمتلك عدسة العين خصائص مميزة إضافية لتكوين رؤية حادة، بالإضافة إلى إمكانية تحرك بعض الأجزاء للتحكم في كمية الضوء الداخل إلى العين، لذلك منحت هذه التكيفات الجديدة تلك الكائنات القدرة على كشف فريستها بدقة أكثر، وكذلك بالهرب من خطر الافتراس، لذلك كانت لهذه الكائنات المُورثات الأفضل بين منافسيها.
وفي نهاية المطاف تكون المنتجات النهائية لهذه العملية هي تراكيب بالغة التعقيد، لذلك توضح لدينا الصورة الكاملة حول كيفية تطوُّر تلك القطع الهندسية المعقدة.
المصدر : جامعة بريكلي ,فهم التطور 101