يروي روملت عن فترة عمله في ناسا:
بعد عامين من التزام الرئيس كينيدي بأن الولايات المتحدة سترسل شخص ليهبط على سطح القمر، كنت أعمل كمهندس في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا (Jet Propulsion Laboratory, JPL). تعلمت هناك أن الأهداف التقريبية الجيدة تعمل العجائب لطاقة وتركيز أي منظمة.
أحد المشاريع الرئيسية في مختبر الدفع النفاث آنذاك كان مشروع المسبار (Surveyor)، وهو مسبار غير مأهول سيرسل للهبوط على سطح القمر لأخذ القياسات والصور الفوتوغرافية. وفي بعثات لاحقة لينقل سيارة آلية صغيرة لتتجول على سطح القمر. المشكلة الأكثر إرباكا لفريق تصميم المسبار كانت أنه لا أحد يعرف حقيقة تكوين سطح القمر. كان العلماء آنذاك قد توصلوا الى ثلاثة أو أربعة فرضيات حول كيفية تشكل القمر.
احدى هذه الفرضيات قالت بأن سطح القمر قد يكون طري، مكون من بقايا ترابية متراكمة عبر دهور من النيازك المتساقطة على سطحه. الأخرى قالت بأن سطح القمر مكون من بلورات حادة كالإبر. الثالثة قالت قد يكون مكون من صخور كبيرة مشابهة للركامات الجليدية على الأرض.
هل ستغرق المركبة في التراب الناعم؟ هل ستُطعن وتُخترق من البلورات الحادة؟ هل ستعصى بين الصخور العملاقة؟ نظرا لهذا الغموض حول تكوين سطح القمر، كان من الصعب على المهندسين وضع تصاميم للمسبار. المشكلة لم تكن انه لا يمكن وضع تصميم؛ المشكلة كانت عدم قدرة الفريق المصمم على الدفاع عن أي تصميم واحد ضد فرضية أي شخص آخر عن الأهوال الممكن مواجهتها على سطح القمر.
في ذلك الوقت، كنت اعمل تحت اشراف Phyllis Buwalda، التي كانت تدير قسم دراسات المهمات المستقبلية في JPL. ترعرعت فيليس في مزرعة في ولاية كولورادو وأكملت دراستها الأولية في البيت. كانت فيليس صاحبة عقل علمي وعملي يصعب التغلب عليه. كان بإمكانها ان تصل بسرعة الى اساس أي مشكلة. اشتهرت فيما بعد بعملها لوضع نموذج لسطح القمر. بوجود مواصفات هذا النموذج، أصبح بإمكان المهندسين والمقاولين الثانويين في JPL التوقف عن التخمين والبدء بالعمل.
كان سطح القمر الذي وصفته فيليس ترابي صلب، بمنحدرات لا تزيد عن حوالي خمسة عشر درجة، تتناثر عليه الحجارة والصخور الصغيرة هنا وهناك. صخور لا يزيد حجمها عن قدمين. عندما أطلعت على هذه المواصفات لأول مرة، دُهشت. قلت لفيليس: “هذا يشبه كثيرا الصحراء الجنوبية الغربية.”
أجابتني بابتسامة: “نعم، أليس كذلك؟”
اجبتها مشتكياً: “لكنك لا تعلمين حقاً كيف هو سطح القمر. لماذا إذاً تضعين مواصفات تنص على أنه مشابه للصحراء عندنا؟ ”
أجابتني قائلة: “هكذا تبدو لنا الأجزاء المنبسطة من الأرض، لذلك من المحتمل ان يكون هذا التخمين مقارباً لما سوف نجده إذا ابتعدنا عن الجبال على سطح القمر.”
فقلت لها: “ولكن ليست لديك أدنى فكرة عن حقيقة سطح القمر! يمكن أن يكون ترابياً، أو كالأبر الحادة… ”
وهنا قاطعتني قائلة: “أنظر، ان المهندسين لا يستطيعون البدء بالعمل دون وجود مواصفات. إذا اتضح لاحقاً أن سطح القمر أكثر صعوبة من ذلك بكثير، فلن نقضي الكثير من الوقت على سطح القمر على أي حال”.
مواصفات القمر التي وضعتها فيليس لم تكن حقيقة. الحقيقة هي أننا لم نكن نعرف. كانت مواصفاتها عبارة عن اختيار استراتيجي تقريبي. كانت هدف يعرف المهندسون كيف يتعاملون معه. لذلك ساهمت هذه المواصفات في تسريع تنفيذ المشروع. كانت المواصفات معقولة وتنم عن الذكاء في نفس الوقت. يمكنك كتابة رسالة دكتوراه حول تحليل الخيارات الضمنية في رؤيتها. فإذا كان سطح القمر لا يستطيع تحمل هبوط مباشر للمسبار، لدينا مشاكل أكبر بكثير من مجرد مشاكل تصميمية. مشروع الولايات المتحدة في ارسال رجل ليهبط على سطح القمر برمته يسكون في ورطة كبيرة. عند كتابته لتاريخ المسبار (Surveyor) لاحقاً، قال Oran W. Nicks: “ان النموذج التصميمي لسطح القمر الذي استُعمل في تصميم المسبار وُضع بعد بعد دراسة كافة الفرضيات والمعلومات المتاحة وقتها. ومن حسن الحظ ان المهندسين الذين وضعوا هذا النموذج لم يسمحوا لعواطفهم ان تتدخل في بنائهم للفرضيات العلمية وبالتالي فإن المواصفات التي وضعوها لتصميم نظام الهبوط كانت دقيقة بشكل لافت للنظر.
هذه المواصفات لسطح القمر استوعبت وامتصت الكثير من الغموض، واعطت للمصممين مشكلة أبسط بكثير. لم تكن مشكلة بسيطة، أو مشكلة لها حل مسبق. لكنها كانت مشكلة يمكن حلها. كنا نعرف ان الأمر سيستغرق وقتاً وجهداً كثيرين، ولكننا كنا نعرف أن بإمكاننا بناء آلة قادرة على الهبوط على القمر الذي وصفته فيليس.
المصدر: Good Strategy Bad Strategy: The Difference and Why It Matters, By: Richard Rumelt