هل هو مُميز حقاً؟
فضح الباحثون الكثير من المُعتقدات الراسخة (السابقة) المُتعلقة بكيفية كون الدماغ البشري “مميزاً”.
على سبيل المثال، وجدت عالمة الأعصاب (سوزانا هركولانو هوزل-Suzana Herculano-Houzel) أن عدد الخلايا العصبية بالنسبة لحجم الدماغ البشري يتوافق مع الرئيسات الأخرى، ووجدت أيضا أن قشرة الدماغ، وهي المسؤولة عن التعلم المعرفي، ليست كبيرة بشكلٍ فريد. في الواقع، إنها تحمل نحو 20% من كل خلايانا العصبية في الدماغ، ونحن نرى قدرً مُماثل في الثدييات الأخرى.
كذلك وجد عُلماء آخرون أن الصفات التي يعتقد أنها فريدة من نوعها للبشر توجد أيضا في أعضاء أخرى من المملكة الحيوانية. القرود، على سبيل المثال، لديهم روح العدالة (الشعور بالإنصاف). يدخُل الشمبانزي في حربٍ مع جماعات مُجاورة وتُظهر الفئران الإيثار وتُبدي التعاطف. وجدت دراسة أخرى نشرت مؤخراً أن قرود المكاك والانسان يشتركان في مناطق الدماغ المسؤولة عن تجهيز البنى الأساسية للُّغة.
إذاً، فكرة أن أدمغتنا “مُميزة” قد تم دحضها تماماً. لسنوات، إفترض العلم السائد أن هُناك علاقة مُباشرة بين الذكاء ومُعدل حجم الدماغ.
ولكن لو نظرنا إلى دماغ بقرة ودماغ شمبانزي، لوجدنا أن كُلاً من أدمغتهم يزن 400 غرام. لو كان هذا الإفتراض صحيحاً، يجب أن يحمل النوعان (البقرة والشمبانزي) نفس الدرجة من الذكاء. بإخذ الفرضية أبعد من ذلك، فأن دماغ الأنسان يزن (1.5) كيلوغرام، دماغ الفيل يزن حوالي (4.5) كيلوغرام، ويتصدّر حجم الأدمغة الحوت الأزرق بـ 9 كيلوغرامات. لذا يبدو جلياً أن هُناك خطأ في نظرية الذكاء مُقابل حجم الدماغ.
هل هُناك علاقة تربُط الذكاء مع حجم دماغ الحيوان وحجم جسمه؟
لنأخذ الغوريلا على سبيل المثال، مُتوسط أجسادهم يبلُغ 180 كيلوغراماً وأدمغتهم حوالي (0.5) كيلوغرام. متوسط أجسادنا يبلغ 75 كيلوغراماً وتزن أدمغتنا (1.5) كيلوغرام. لذا نسبة الدماغ للجسم عند الإنسان تبلُغ (7.2) مرة أكبر من الغوريلا ونبدو أننا أكثر ذكاءً بكثير.ولكن استهلاك الطاقة اليومية التي يحتاجها الدماغ البشري هو أعلى بكثير نسبياً من دماغ الغوريلا
تَصرُف الغوريلا مُعظم غذائهُم اليومي في تجهيز الطاقة التي تحفظ كُتلة الجسم الكبيرة مُزودة بالوقود الكافي للحركة والاستمرار بفعاليات البقاء، في حين لا يحتاج البشر سوى ثلاث وجبات سريعة لدعم جسماً أصغر ولكن دماغًا أكبر وأكثر نشاطاً. الأدمغة البشرية هي 2% فقط من كتلة الجسم لدينا ولكنها تحتاج إلى 25% من استهلاكنا للطاقة للعمل. أدمغة الغوريلا تستهلك فقط 10% من الإستهلاك اليومي للسُعرات الحرارية. فما الذي يحدث هنا؟
الدكتورة وعالمة الأعصاب سوزانا هركولانو هوزل بحثت عن الافتراض الموجود مُنذ زمن حول أن هناك تناسب طردي للخلايا العصبية، أو معالجات الأفكار، في وزن المادة الرمادية (أحد العناصر الأساسية في الجهاز العصبي المركزي).
أُعتقد سابقاً أن الدماغ البشري يحمل حوالي 100 مليار خلية عصبية لكنها لم تستطع العثور على مصدر لهذه المعلومات. لذلك قررت القيام ببعض التجارب.
طوّرت عملية لإستخراج نواة الخلايا العصبية من خلايا المادة الرمادية وأثبتت أن متوسط الدماغ البشري يحتوي على 86 مليار خلية عصبية – 16 مليار في قشرتنا الُمخية وحدها، والتي هي حتى الآن أعلى نسبة في أي نوع من الأنواع ومقر الوعي الإدراكي.
ولاحظت أنه لم يكن هناك شيء مختلف في الهيكل الأساسي بين الأدمغة البشرية والرئيسيات الأخرى مثل الغوريلا، الشمبانزي، وانسان الغاب.
ولكن متطلبات طاقة الدماغ إلى الجسم لدينا أعلى بكثير من القردة، مع ذلك غذاؤنا أقل بكثير. قادها ذلك لطرح هذا السؤال – ماذا حدث في عمليتنا التطورية التي جعلت الأدمغة البشرية نسبياً أكبر بكثير؟
أشارت الأنثروبولوجيا إلى أن الدماغ البشري نما فجأة قبل حوالي (1.5) مليون سنة. حدث شيءٌ آخر في نفس الوقت.
تعلّم البشر طهي طعامهم
تعلّمنا إستخدام النار إلى مرحلة ما قبل استيعاب مدخولنا من السعرات الحرارية التي شَحنت بشكلٍ فائق القدرة على تغذية ونمو الدماغ. بسبب طهي الطعام ذو السعرات الحرارية العالية والأطعمة الغنية بالبروتين، إزداد حجم دماغنا بسُرعة ليصبح مستهلكاً كبيراً للطاقة.
قضى البشر وقتاً أقل بكثير في البحث عن الإفتراس، وهضم الأطعمة مُنخفضة السعرات الحرارية الخضرية الخام مما فعلت الرئيسات الأخرى. نظامُنا الغذائي النهم سمح بتركيز قشرتنا الدماغية على تطوير تجهيز أغذية أفضل مثل الزراعة، والحضارة، والكهرباء، ومحلات السوبر ماركت.
إذاً، هناك العديد من الطرق التي نختلف بها نحنُ عن باقي المملكة الحيوانية، دراستين نُشرتا مؤخرًا تُضيف أفكاراً جديدة.
التواقيع الوراثية الفريدة
يتشابه البشر مع الحيوانات الأُخرى على المستوى الوراثي. نحنُ نتشارك بأكثر من 90 في المئة من حمضنا النووي مع أقرب أقربائنا – الشمبانزي، والبونوبو والغوريلا. في الواقع، تتشارك الفئران والبشر أيضاً في العديد من المورثات المُماثلة، وهو السبب الذي يدفع العُلماء لإستخدام الفئران في دراسة العديد من الأمراض التي تُصيب الإنسان. ومع ذلك، كشفت الدراسات أن الطريقة التي تظهر فيها المورثات، وشرائح الحمض النووي التي ترمز لبروتينات مُعينة، يمكن أن تكون مختلفة تماماً بين البشر والحيوانات الأخرى.
بروز أكثر قوة في تقنيات جمع البيانات سمح للعلماء الآن بكشف هذه الاختلافات بتفصيل أكثر وتحديد الطرق الصحيحة التي تتميز عندها الإنسانية.
على سبيل المثال، فقد توصل العلماء في معهد ألين لعلوم الدماغ إلى أطالس مُفصلة من أنماط التعبير لآلاف المورثات في أنواع مختلفة، بضمنها تلك التي تمتلكُها الفئران البالغة والأدمغة البشرية. في دراسة نشرت في “الطبيعة وعلوم الاعصاب”، استخدم الباحثون مجموعات البيانات الضخمة هذه للبحث عن أنماط التعبير الوراثي التي يتم مشاركتها ضمن البشر.
أخيراً، حددوا 32 توقيعاً فريداً من نوعه داخل 20,000 مورث والتي تبدو أنها مشتركة عبر 132 منطقة من مناطق الدماغ في ستة أفراد. هذا الرمز الوراثي الفريد قد يساعد في تفسير سمات الإنسان الواضحة.
كشفت دراسة جديدة نُشرت في إجتماع الاكاديمية الوطنية للعلوم أن الأدمغة البشرية قد تكون أقل توريث وراثياً، وبالتالي فهي مرنة أكثر، من تلك التي يمتلكُها أقرب أسلافنا، الشمبانزي. قد تكمن المرونة وراء الاختلافات المحددة في المخ التي تؤدي إلى القدرات المعرفية الفريدة من نوعها.
عالمة الأنثروبولوجيا (آيدا غوميز روبلزAida Gómez-Robles) وزملاؤها في جامعة جورج واشنطن، قارنوا تأثير المورثات على حجم الدماغ وتنظيمهُ في 218 دماغاً بشرياً و206 دماغاً للشمبانزي. اكتشفوا أنه على الرغم من أن حجم الدماغ كان متوارث إلى حدٍ كبير في كلا النوعين، فأن تنظيم القشرة المخية، لا سيما في المناطق المُتعلقة بالوظائف الإدراكية العُليا، كانت أقل سيطرة وراثيًا بكثير في البشر عنها في الشمبانزي. تفسير واحد مُحتمل لهذا الفرق هو بسبب كون أدمغتنا أقل تطوراً من أدمغة أقربائنا من الرئيسيات عند الولادة، ذلك يخلق فترة أطول لنا يُمكن من خلالها أن نُجسّد مُحيطنا (نتكيف معه).
سوف تشهد السنوات القادمة على الأرجح فتح المزيد من الأبواب في فهمنا للدماغ البشري. نأمل أن تسمح لنا هذه النتائج في فهمٍ أفضل لماذا أصبحنا نحنُ النوع السائد والسبب وراء كون بُنيتنا الوظيفية في الشكل التي هي عليه. في النهاية، يمكن أيضاً أن تسمح لنا مُعالجة الدماغ بشكلٍ أفضل، وتصحيح الأمراض، و-ربما- الدخول في عهدٍ جديد للبشرية.