الرئيسية / بايولوجي / الخطوة التالية للتطور

الخطوة التالية للتطور

إن التطور مثل محرك بحث، إلا أنه ليس بتلك الجودة، فنحن هنا لا نعني غوغل وإنما قد نقصد غوغل في حال كونه ثملا وأعمى ويمشي على عكازين ويعاني من آثار لعملية جراحية في جبهته، ولهذا السبب وصف الحائز على جائزة نوبل فرانكو جيكوب التطور بأنه سمكري وليس مهندس، فالمهندسون يعلمون إلى أين سيصلون، فلديهم هدف وخطة، أما السمكريون فهم يصلون القطع ببعضها البعض فحسب، وهم يلصقون هذه القطعة بتلك في محاولة مستمرة لاكتشاف الاحتمالات الناجحة من دون هدف يسعون إليه.
 
تأتي الفكرة بأن محركات البحث التطورية تتقدم بشكل عشوائي – وبالتالي بشكل تدريجي- من تشارلز داروين، فقد أدرك أنه لأن المصادر غالبا ما تكون شحيحة،فإن الكائنات الحية دائما ما تكون في صراع مع بعضها البعض، وفي هذه المعركة اللانهائية تتألق بعض الأفراد التي تمتلك ميزة غريزية معينة وتورث هذه الميزة إلى سلالتها، وبهذه الطريقة يمكن إنشاء أجناس جديدة بإحداث تغير طفيف في كل مرة، إلا أن هذه العملية لن تحصل بالتأكيد بشكل سريع.
 
تاريخيا، لم يستطع أي ظرف تسريع هذه العملية إلا التحول الجيولوجي الهائل، مثل تأثير نيزك أو العصر الجليدي، فقد استطاع تسريع هذه العملية بشكل كبير، حيث أن هذه التحولات تقدم أساسا يفتح المجال لبيئات إيكولوجية جديدة وإمكانيات ليستكشفها محرك بحث التطور، ونظرية الملاءمة والبدايات هذه – التي اصطلح في عام 1972 المنظران في التطور ستيفان جيه غولد ونايلز إلدريدج على تسميتها «نظرية التوازن المتقطع» – تساعد على تفسير ما يبدو أنه ظهور مفاجئ لأجناس جديدة في السجل الأحفوري، إلا أنه في الواقع لا يوجد شيء مفاجئ في ذلك، فوفقا للباحثين تقدر مدة فترات التقطع هذه بما يقارب 50,000 إلى 100,000 سنة، والأحافير لا تحتفظ بسجلات في حالة جيدة.
 
تعد عملية الانتخاب الطبيعي أمرا أشبه بالمقامرة، فبالتأكيد قد يكون أحد الأفراد أطول أو أذكى أو ذا عمر أطول مقارنة مع أقرانه بشكل لافت، إلا أنه بغض النظر عن مدى أهمية التنوع، تبقى الفترات الطويلة جدا مطلوبة من أجل انتشار تلك الصفة عند جميع الناس، وعلى الأقل يفترض أن تكون هذه هي القاعدة.
 
لقد أصبحت العملية مؤخرا أكثر سرعة، فعلى مدى القرون القليلة الماضية، وفي السنوات الـ 50 الأخيرة، حيث أخذت الأمور تتسارع بشكل أكبر، بدأت موجة ثابتة من الابتكارات البشرية بتسريع العمليات التي كانت حتى فترة قريبة من اختصاص الطبيعة وحدها. باختصار يبدو أن التكنولوجيا أنشأت طرقا لتسريع التغيير (في هندسة الجينات على سبيل المثال) كما أنشأت نوعا جديدا من السكان (مثل أولئك الذين يقطنون المدن الحديثة)، محدثة تغييرات جذرية على أجسادنا ومشكّلة مستقبلا جديدا لنا كأجناس جديدة.
 
إن المعلومة المبدئية بأن هنالك خللا ما في جزئية التدرج – وهو الاسم الذي يطلق على العملية البطيئة للتغير التطوري والتي تنسب إلى داروين – لم يتم التوصل إليها عن طريق علم الأحياء، وإنما ظهرت في علم الاقتصاد، وبالتحديد في تحليل اقتصادي للعبودية في أمريكا.
 
في عام 1958 نشر كل من ألفريد كونراد وجون ماير، وهما خبيران اقتصاديان في جامعة هارفرد، كتابا يشيران فيه إلى أن الاستعباد قد يكون لا أخلاقيا، إلا أنه كان مجديا من الناحية الاقتصادية – وهو الأمر الذي لم يتحمله الخبير الاقتصادي في جامعة شيكاغو روبرت فوغل، لقد كان فوغل أبيضا، إلا أن زوجته كانت أمريكية من أصل أفريقي، بل أمريكية من أصل أفريقي ومتحيزة إلى أصلها بشكل كبير. يقول فوغل: «عندما كنت أدرّس في جامعة هارفرد علقت لافتة على باب منزلي مكتوب عليها: لا تحزن لأنك لست أسوداً مثلي، فنحن لم نولد جميعنا مع حظ جيد.»
 
قرر فوغل أن يثبت عدم صحة ما قال كونراد وماير، وقد أمضى ما يقارب العقد من عمره محاولا حل هذه المشكلة، وفي أبحاثه بعد ذلك استطاع فوغل أن يساعد على تطوير استخدام تطبيق التحليل الإحصائي الدقيق وطرق رياضية أخرى تستند على أسس اقتصادية لدراسة التاريخ (وهي الدراسة التي حاز بسببها على جائزة نوبل في عام1993).
 
بدأ فوغل جنبا إلى جنب مع الخبير الاقتصادي في جامعة روتشيستر، ستانلي إنجرمان، بتطبيق هذه الطرق على دراسة العبودية، وقد قادته هذه التجربة إلى التعمق في العلاقة بين علم الاقتصاد وعلم وظائف الأعضاء (الفيسيولوجي) ومدى طول العمر. حيث حلل متغيرات من قبيل كمية الطعام المستهلك من قبل العبد العادي (أو الرجل الحر) ومقارنتها بمقدار إنتاجيته. ولعقد هذه المقارنات احتاج فوغل إلى معلومات ومقاييس، أما المعلومات فقد حصل عليها من المعهد الوطني للصحة – والذي يحصل على معلوماته من قاعدة بيانات سجلات محاربي الحرب الأهلية الأمريكية القدامى – والتي تعد كنزاً قيّما يحتوي على معلومات مفصلة من قبيل الطول والوزن في وقت التجنيد، وقوائم يومية للمرضى والجرحى، ونتائج الفحوصات الدورية للجنود قبل الحرب، ومعلومات تتعلق بتعداد النفوس، وغالبا ما تحتوي على شهادات وفاة. وأما المقاييس فقد استخدم طول الجسم وكتلته، وذلك بسبب إجماع مستقر وآخذ بالازدياد لدى العلماء بأن هذه العوامل تعد عوامل تنبؤ دقيقة بمعدل الوفيات ومعدل انتشار الأمراض. يقول الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، دورا كوستا الذي شارك فوغل في كتابة بعض الأوراق البحثية عن هذه الأمور: «يتحول الطول إلى مؤشر رائع على الصحة، فكل ما يتعلق بالتغذية والأمراض المعدية والصرف الصحي واحتياجات الإنسان تجدها موجودة في جسده» (من الجدير بالذكر أن الأمم المتحدة تستخدم الطول كوسيلة لرصد نوعية التغذية في الدول النامية.)
 
عملت جميع هذه المعلومات على تقديم نظرة عن الحياة في القرن التاسع عشر من جانب السكان، وهو بالضبط ما احتاجه فوغل من أجل فهم التوجهات الاقتصادية الاجتماعية للوصول إلى نتائج مذهلة، وأولى هذه النتائج قام هو وإنجرمان بشرحها بالتفصيل في عام 1974 في كتابهما ذائع الصيت حاليا زمن على الصليب: تحليل اقتصادي لعبودية السود الأمريكيين Time on the cross:An Economic Analysis of American Negro Slavery، وهذه النتيجة هي أن كونراد وماير كانا على صواب: فالعبودية، مع كونها بغيضة، لم تكن غير فاعلة أو غير مربحة بقدر ما كان يفترض معظم المؤرخين.
 
يقول فوغل: «كما يتضح لنا فإن معظم العبيد، وخصوصا أولئك العاملين في مزارع صغيرة، كانوا يتغذون بشكل أفضل ويعيشون أوضاعا معيشية أفضل من الأحرار في الشمال، وهو ما يعني أنهم عاشوا مدة أطول وكانت حياتهم صحية أكثر وبالتالي فقد أنتجوا المزيد، إنه لمن المؤكد أنها نتيجة بغيضة، إلا أنها من حيث المعلومات صحيحة.»
 
بعد ذلك بدأ فوغل في حوالي عام 1988 بملاحظة توجه مهم في المعلومات: فعلى مدى القرون القليلة الماضية، وفي الغالب في القرن العشرين، أصبح طول الأمريكيين يزداد، كما أنهم كذلك أصبحوا أكثر سمنة وأصبحوا يعيشون أكثر كما أصبحوا أغنى. ففي عام 1850 على سبيل المثال كان معدل طول الذكر الأمريكي 5 أقدام و7 إنشات وكان وزنه 146 باوندات، وبحلول عام 1980 قفزت هذه الأرقام إلى 5 أقدام و10 إنشات و174باوندات. وهذا لا يقتصر على الأمريكيين فقط، فقد قام فريق من الخبراء الاقتصاديين بتوسيع هذه الدراسة لتصبح على نطاق عالمي، واكتشفوا أن هذا التوجه هو توجه عالمي. يقول فوغل: «على مدى الـ 300 سنة الماضية قام الإنسان بزيادة معدل حجم جسده بما يقارب 50%، ومعدل طول عمره بما يزيد عن 100%، كما طور قوة وكفاءة أجهزته الحيوية المهمة.»
 
من ناحية تطورية، تعد الـ 300 سنة مجرد غمضة عين، أو عطسة، وليست كافية لمثل هذا النوع من التطورات الجذرية، ولذلك فمن أين أتت هذه التطورات؟ لقد أمضى فوغل العقدين التاليين محاولا إيجاد إجابة لهذا السؤال، وتوصل إلى الاعتقاد بأن تيارا ثابتا من التطورات التكنولوجية – التقدم في إنتاج الغذاء وتوزيعه والصرف الصحي والصحة العامة والعلاج – أدى إلى المساعدة على إيجاد حقبة
 
من التقدم التطوري السريع، يقول فوغل: «على مدى مئات من السنين السابقة حصل الإنسان على درجة غير مسبوقة من السيطرة على بيئته، ودرجة السيطرة هذه كبيرة بحيث أنها تميزه ليس عن باقي الأجناس فحسب وإنما عن جميع الأجيال السابقة من الجنس البشري.»
 
إن جوهر فكرة فوغل (والتي يسميها بالتطور التكنووظيفي techno-physio evolution ويفسرها بتعمق في كتابه الصادر عام 2011 الجسم المتغير The Changing Body وقد ألفه بالتعاون مع رودريكفلود وبيرنارد هاريس وسوك شول هونغ) يعد في غاية البساطة، «فصحة وتغذية جيل واحد تسهم من خلال الأمهات والأطفال وتجربة الطفولة في زيادة قوة وصحة وطول عمرالجيل التالي، وفي نفس الوقت فإن الصحة الأقوى والعمر الأطول تمكن الأشخاص من الجيل التالي من أن يعملوا بجهد أكبر ولوقت أطول من أجل إيجاد موارد يمكن استخدامها في المقابل لمساعدة الأجيال التالية على التكاثر.» وباختصار فإن التكنولوجيا تؤثر على الجينات.
 
إن هذه المفاهيم ليست جديدة بشكل كلي، فخبراء الاقتصاد معروفون بعملهم منذ ما يقارب 100 عام في مجال العلاقات بين الطول والدخل وطول العمر، إلا أن الأمر الذي لم يتم تفسيره بشكل مناسب هو الآلية، وقد أتى هذا التفسير لاحقاً مع بروز علم التخلق – وهو دراسة كيفية استطاعة البيئة الخارجية أن تغير جيناتنا على مر الحياة، وحتى توريثها للأجيال التالية، وفي يومنا هذا أظهر الباحثون في هذا المجال القائم على أسس متينة أن الانتخاب الطبيعي ليس القوة الوحيدة القادرة على إحداث تغيير وراثي.
 
يمضي فوغل قدماً بمضيه بشكل أسرع، فيقول: «إنه جدل حول ما إذا كان الكل أكبر بكثير من مجموع الأجزاء، فنحن نتحدث عن تلاحم رائع بين التكنولوجيا وعلم الأحياء، عن تغييرات بسيطة – من قبيل البسترة وتخفيض الملوثات بشكل عام وتنظيف وسائل توصيل المياه – وهي التي ستؤدي إلى آثار يمكن توارثها بين الناس بشكل أسرع من السابق. فكر بالتالي: أن البشر أجناس عمرها 200,000 سنة، وعندما ظهرنا لأول مرة كان نطاق عمرنا المتوقع 20 سنة، وبحلول القرن العشرين أصبح 44 سنة، لقد ازداد عمرنا بمقدار 24 سنة عنه قبل 200,000 سنة، أما اليوم فيبلغ معدل أعمارنا 80 عام، فقد عملت هذه التغييرات البسيطة على مضاعفة طول عمرنا المتوقع في غضون قرن واحد.»
 
يقول الخبير الاقتصادي والمدرس الزائر في جامعة ديوك، جون كوملس: «لقد برمجتنا عملية التطور لنكون مثل البلاستيك إلى حد ما، فجسمنا يتمدد في أوقاتنا الجيدة ويتقلص في الأوقات السيئة»، وقد تم الالتفات إلى كتلة الجسم من قبل فوغل في العشرينات من القرن الماضي، وذلك عندما بدأ الناس بقيادة السيارات والعمل في وظائف تتطلب الجلوس لوقت أكثر، أما اليوم فمع وجود السمنة المرضيّة في حالة تأهب قصوى، أصبحت مرونة الوزن عبئاً لأن قوى التطور لم تؤهلنا للتحكم بامتصاص الغذاء، يقول كوملوس: «لم نعلم أن العوامل العارضة قد تحدث مثل هذا التغيير، فالتطور التكنووظيفي يظهر أن للاقتصاد أثراً يصل إلى مستوى الخلية، وهو أنه يصل إلى داخل العظام.»
 
منذ أن بدأ فوغل بعمله انتشرت هذه الأفكار بعيداً أبعد من مجال الاقتصاد، فقد بدأ الباحثون من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية إلى علماء الوراثة السكانية بالتحري عن ظاهرة التطور التكنووظيفي. ففي مقالة نشرت في عام 2000 في مجلةBehavioral and Brain Sciences الصادرة من جامعة سانت أندروز، وصف عالم الأحياء التطورية كيفن ليلاند هذه العملية بـ «بناء الموطن» ويفسرها على النحو التالي: «تتفاعل جمع الكائنات الحية بشكل دائم مع بيئاتها، وهي بذلك تغيرها باستمرار، ولذلك إذا عملت الكائنات الحية في كل جيل على إحداث تعديلات على بيئتها المحلية فقط بشكل تمييزي أو غير متسق، فلن يكون هنالك تعديلات على ضغوطات الانتخاب الطبيعي ومن ثم لن يكون هنالك أي تبعات تطورية ذات أهمية. أما إذا عمل كل كائن حي في كل جيل على إحداث تغيير بشكل متكرر على بيئتها بنفس الطريقة…فقد تكون النتيجة حدوث تعديلات على الانتخاب الطبيعي، وقدتكون التبعات البيئية لبناء الموطن هذا مؤقتة،وقد تكون مقتصرة على جيل واحد، ولكن إذا كان التغير البيئي ذاته مفروضاً على عدد كافٍ من الأجيال، فيمكن أن يعد ذلك مصدراً مهماً للانتخاب.»
 
سواءً كنت تسميها نظرية بناء الموطن أو نظرية التطور التكنووظيفي، فهي في النهاية تسمى بنظرية التوازن المتقطع، وهي توفر مواطن جديدة عن طريق الحضارة لا الكوارث، والفرق الأساسي يكمن في سرعة التغيير، فالحوادث الجيولوجية التي تحدث بشكل طبيعي نادراً ما تحدث، بينما يحصل التقدم التكنولوجي الذي يحدث تغييرات على الموطن، بشكل سريع بل ومتسارع.
 
إن ذلك لا يعد فرقاً صغيراً، ففي غضون السنوات القليلة الماضية اكتشف الباحثون أن نفس معدلات النمو الأسيّة التي تعتمد على الحوسبة (مثل قانون مور الذي ينص على أن عدد الدوائر المتكاملة على رقاقة كمبيوتر تتضاعف كل 12 إلى 24 شهر) تظهرفي جميع التكنولوجيا المعتمدة على المعلومات، أما المجالات التي لديها احتمالية كبيرة لقيادة التطور التكنووظيفي – مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو وعلم الأحياء وعلم الروبوتات وشبكات الحاسوب وأجهزة الاستشعار وما إلى ذلك – فهي تتطور أيضاً جنباً إلى جنب مع السعر الأسيّ/منحنيات الأداء.
 
يجب أن نأخذ التسلسل الجينومي بالحسبان، حيث يوصف بأنه أداة أساسية مطلوبة لنقل الطب من كونه عام ويتصرف في ردود أفعال إلى أن يصبح فردي ووقائي، ففي عام 1990، عندما أعلن عن مشروع الجينوم البشري، بلغت تكاليف فك الشفرة الوراثية لجينوم كامل لشخص واحد 3 بليون دولار أمريكي، أي بقدر ما يمكن للطب الشخصي الحصول عليه، ولكن في عام 2001 انخفضت التكاليف إلى 300 بليون دولار أمريكي، وبحلول عام2010 انخفضت إلى ما دون ال5,000 دولار، أما عام 2012 فانخفضت التكاليف وأخيراً عن سقف الـ 1,000 دولار، وإذا ما استمر معدل الانخفاض على هذه الحال ستكون تكلفة فك الشيفرة الوراثية لجينوم كامل لشخص واحد في غضون العشر سنوات القادمة، أقل من 10 دولارات، وإذا ما أراد الطب الذي يوصف بأنه عام ويتصرف في ردود أفعال أن يضاعف طول العمر المتوقع للإنسان في قرن، فتخيل إلى أي مدى سوف يضاعفه الطب الفردي والوقائي.
 
يبين التطور التكنووظيفي مدى تأثير هيمنتنا الزائدة على بيئتنا الخارجية على البيولوجيا لدينا، إلا أن العديد من وسائل التكنولوجيا الآخذة بالتطور بشكل أسرع في يومنا هذا تقطع الطريق على الوسيط – الوسيط الدارويني وهو عملية الانتخاب الطبيعي- ما يتيح المجال لنا للسيطرة بشكل مباشر على بيئتنا الداخلية ودفعها للأمام، وذلك حتى لو لم يتغير الموطن.
 
يقول الرئيس المشارك في قسم المعلوماتية الحيوية والتكنولوجيا الحيوية في جامعة التفرد، أندرو هيسل: «إن التكنولوجيا التي تنمو بشكل مضاعف تغير النقاش حول التطور، فإذا تتبعت النماذج سترى وبسرعة أن هذا هو القرن الذي نسيطر فيه على الجينوم لدينا، ألقِ نظرة فقط على التكنولوجيا المحيطة بالاستنساخ: اختبار الجنين والمسح الجيني ومراقبة الحمل والاستشارة الوراثية، عندما كنت طفلاً كانت متلازمة داون مشكلة مستعصية، أما اليوم فيتم التخلص من 90% من الأجنة المصابة بمتلازمة داون، تتبع هذه النماذج وصولاً إلى النماذج المستقبلية، وسوف ترى أننا لسنا بعيدين عن اليوم الذي نصمم فيه أبناءنا: باختيار لون البشرة ولون العيون والصفات الشخصية، وستتساءل: كم سنحتاج من الوقت حتى نسمع الآباء والأمهات يقولون لنا لقد اشتريت لك أفضل دماغ يمكن أن يشترى بالنقود، فلماذا لا تستخدمه؟»
 
إن مثل هذه الإمكانيات سوف تثير العدد من التساؤلات الأخرى والتي قد تكون تساؤلات أكبر، فما هو مقدار التغييرات التي يجب أن تحدث لإنشاء جنس جديد كلياً؟ يعتقد عالم الأعصاب في جامعة دورتموث والذي يبحث في تطور الدماغ ريتشارد غرينغر أن ذلك لن يتطلب الكثير، فهو يقول: «فكر في الكلاب، فقد كانت جميعها في السابق تبدو كالذئاب، أما الآن فهي لا تبدو مثلها، وبنفس الطريقة استطاع الإنسان عن طريق التغيير في جيناتها أن ينشئ سلالة كلاب تختلف تماماً عن أصلها، وكلب ينتمي لسلالة الكلاب الدينماركية الضخمة لن يستطيع مع كلب آخر ينتمي لسلالة الشيواوا ضئيلة الحجم أن يتناسلا من دون مساعدة.»
 
إن ما ينطبق على الكلاب ينطبق على البشر أيضاً، وفي الوقت الحالي يعد البشر الجنس الوحيد من القرود العليا الذي لا يزال على سطح الأرض، إلا أنه يبدو أنه من غير المحتمل الحفاظ على هذا الوضع قائماً، وذلك حسب ما يقول جوان إنريكيس المدير التنفيذي لشركة بيوتكنومي، وهي شركة
 
تستثمر في العلوم الحياتية، والمدير المؤسس لمشروع العلوم الحياتية في كلية هارفرد للأعمال، ويضيف: «إننا الآن على بعد ما لا يزيد عن جيل أو جيلين من ظهور نوع جديد تماماً من القرود العليا، وهي الإنسان التطوري: وهو سلالة من القرود العليا له سيطرة مباشرة وواعية على تطورها وتطور الأجناس الأخرى.»
 
لعل نظرة الخيال العلمي التقليدية لما سيحدث بعد سيطرتنا على تطورنا ستأخذ مجرى تحسين النسل، ما سيؤدي إلى بذل المزيد من الجهد لصنع عرق مثالي، إلا أن الوضع الحقيقي بعيد تماماً عن المثالية، فالتبعات غير المتعمدة واردة جداً، ومن الواضح أن الأهداف الوراثية التي ليس فيها أي نوع من الغموض – مثل محاولة جعل الناس أكثر ذكاء – لا تحتاج إلى الملايين من الجينات فحسب (ما يزيد المخاوف من نوع جديد من الإرهاب السهل) بل قد يتطلب علاقات مشروطة: فعلى سبيل المثال قد يصبح ذكاؤنا مرتبطاً بالذاكرة بطريقة لا يمكننا فك تشفيرها، فتصبح محاولة تحسين قدرة واحدة معوقاً عن تحسين باقي القدرات من دون قصد، وعلاوة على ذلك، فمن دون نموذج للسيطرة الهرمية،سيكون هنالك القليل من الأدلة لافتراض أن رغبات الإنسان ستكون موحدة بشكل كافٍ إلى حد الاتفاق على الشكل المثالي للعرق البشري.
 
يقول هيسل: «من المؤكد أننا قد نبدأ في تحسين أنفسنا وتصميم أبنائنا، إلا أنه من غير المحتمل أن ذلك سيحدث بطريقة موحدة، فنحن لا نزال بشراً، ولذلك سنقوم بتصميم أبنائنا بناء على ذواتنا وعلى إبداعنا ورغباتنا، والغالبية العظمى ستضمن جميع أنواع الأصناف البرية، فمن غير المحتمل أن جميع هذه الأصناف ستكون قادرة على أن تصبح مهجنة بنجاح، وذلك ليس من دون استخدام التكنولوجيا، كل ذلك سيحدث عندما نستطيع حقاً الانشقاق عن جنسنا،ولذلك سيستطيع الإنسان التطوري بسهولة صنع انفجار كامبري للسلالات.»

المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

“حمضٌ من بين ملايين الأحماض”: حمض الـ DNA ليس الجزيء الجيني الوحيد

تقديم: مات دافيس بتاريخ: 21. نوفمبر. 2019 لموقع: BIGTHINK.COM ترجمة: هندية عبد الله تصميم الصورة: …

“محرك الوعي” في الدماغ هي منطقة بالغة الصغر

بقلم: ستيفن جونسن بتاريخ: 12/شباط/2020 ترجمة: رهام عيروض بصمه جي تدقيق: ريام عيسى  تصميم الصورة: …