«النشاط الاندماجي، على ما يبدو، هو السمة الأساسية للفكر المثمر.»
لطالما، ولفترةٍ طويلةٍ بالتأكيد قبل أن أجدَ المصطلح المناسب، كنتُ أعتقدُ بأن الإبداع ما هو إلا أمرٌ اندماجيّ: أن نكون أحياء وواعِين تجاه العالم، نُكدس مجوعة من اللبنات من مختلف الاختصاصات، المعرفة والذكريات، فتات من المعلومات، شرارات من الإلهام، وبعض الأفكار الموجودة التي ندمجها بعضها مع بعض؛ أو نعيدُ تجميعها, غالبا من دون وعي, لنحولها إلى شئ جديد. وبهذا التجمع العقلي الهائل، الذي يشمل المصادر المتعددة في تخصصاتها المعرفية، يُشار إلى البنية التحتية لما نسميه: «أفكارنا الأصليّة».
وهذه الفكرة ليست جديدة بالطبع، فبعض أعظم العقول في تاريخ الفن والعلم والشعر والسينما كانوا قد عبّروا عنها، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، وفي شكلٍ واحد أو بآخر؛ فنظرية آرثر كوستلر Arthur Koestler الشهيرة بـ(bisociation) كانت قد أوضحت فكرة الإبداع من خلال مزيج من العناصر التي لا تنتمي بطبيعة الحال إلى بعضها البعض.
كما شبّهَت مصممة الرسوم باولا شير Paula Scher الإبداعَ بجهازِ توزيعٍ آلي، يقوم بترتيب خليطٍ الأشياء الموجودة في رؤوسنا بصورةٍ عشوائية، ويحولها فجأة إلى مزيجٍ إعجازي؛ كما اعتقد تي اس إيليوت T. S. Eliot أن عقل الشاعر يحتضن الخواطر المُجزَّئة ويحولها إلى أفكارٍ جميلة؛ وأكَّد الرائع ستيفن جي كولد Stephen Jay Gould على أن ربط ما يبدو غيرَ مترابط ما هو إلا إبداع اندماجي، وحتى ما نسميه «الحدس» مبني على تطبيقٍ بلا وعي لهذه الملكة العقلية البحتة.
في واقع الحال، ربما يكون المفهوم قد وضَّحه ألبرت أينشتاين بصورةٍ أفضل، والذي أعطاه مصطلحَ «النشاط الاندماجي». (اشتُهِر أينشتاين بمجيئه بأعظم اكتشافاته العلمية خلال استراحات عزف الكَمان).
فمن كتابِه، أفكار وآراء، – وهو نفس المجلد النفيس الذي قَدّم لنا الحكمةَ الخالدة لفيزيائيِّنا المحبوب عن العطف ووجودنا المشترك – يأتينا تعبيرُ أينشتاين الأكثر اقتضابا عن كيفيةِ عمل دماغِه، مُقادًا بقوة إبداعه الاندماجي.
كانت رسالة عام 1945 قد كُتِبت ردًّا على دراسةٍ أجراها عالمُ الرياضياتِ الفرنسيُّ جاك هادامار Jacques Hadamard عن العمليات العقلية لمشاهير العلماء، مستمدا إلهامه من التغطية الشهيرة للموسوعي هنري بونكير Henri Poincaré لنفس الموضوع. نُشرت هذه الرسالة في مقالٍ بعنوان (مقالة عن سيكولوجية الاختراع في مجال الرياضيات)، مع رسالة رسمية لأينشتاين ضُمِّنت معها كـ(شهادة):
«زميلي العزيز،
فيما يلي، سأحاول الإجابة بإيجاز عن أسئلتك قدر المستطاع. أنا شخصيًّا لستُ مقتنعا بهذه الإجابات، بيد أنني أنوي الإجابة على أسئلة أكثر إذا كنتَ مؤمِنًا بأنها قد تعود بالفائدة على ما اتخذتَه على عاتقِك من عملٍ مهمٍّ وصعبٍ جدا.
(أ) الكلمات أو اللغة، من حيث الكتابة أو اللفظ، لا يبدو أنها تلعب أيَّ دورٍ في آلية التفكير لديّ. الكيانات النفسانية، التي تبدو ممكنةً للتوظيف كعناصرٍ في التفكير، ما هي إلا مؤشرات أكثر تأكيدًا وصور أكثر وضوحا أو أقل؛ حيث من الممكن أن يُعاد صياغتها ومزجها «طواعيةً».
وهنالك علاقة مؤكدة بالطبع بين هذه العناصر والمفاهيم المنطقية ذات الصلة بالموضوع. كما من الواضح أن الرغبة في التوصل بصورةٍ نهائيّةٍ لمفاهيمِ مترابطةٍ منطقيًّا، هي الأساس الوجداني لهذا النشاط الغامض إلى حد ما مع العناصر المذكورة آنفا. لكن من وجهةِ نظرٍ سيكولوجية، يبدو أن هذا النشاط الاندماجي هو السمة الأساسية للفكر المثمر، قبل أن يكون هنالك أي علاقة مع الإنشاء المنطقي بالكلمات، أو أي من الإشارات الأخرى التي يمكن أن ترتبط معا.
(ب) العناصر المذكورة أعلاه، في حالتي هذه، هي من النوع المرئي وبعضٍ من النوع العضلي. يجب أن يتم البحث عن الكلمات المتفق عليها، أو الإشارات الأخرى، بعناية وتدقيق في المرحلة الثانوية فقط، عندما يكون النشاطُ الترابطيُّ المذكور آنفا قد تثبَّت بما فيه الكفاية وأصبح طيْعا لاستحضاره عند الحاجة.
(ج) بناءٌ على ما ذكر، يهدف النشاط مع العناصر المذكورة لأن يكون مماثلا للروابط المنطقية المؤكدة التي يبحث عنها الباحث.
(د) تكون العناصر بصرية وحركية. وفي مرحلة ما، وعندما تتدخل الكلمات حتما، تكون بالنسبة لحالتي سمعية على نحو محض، لكنها تتداخل فقط في المرحلة الثانوية كما أسلفت.
(هـ) يبدو لي أن ما تسمُّونه (الوعي الكامل) هو حالة الحد التي لا يمكن بلوغها أبدا؛ وهو على ما يبدو لي مرتبط بحقيقة تُدعي (ضيق الوعي).»
هذه آراء وأفكار كتابٍ رائعٍ من الغلاف إلى الغلاف؛ نوعٌ من الكتب التي تعود لقراءتها مرات ومرات، فقط لتكتشف معانيَ جديدةً في كل مرة تعيدَ قراءتَه.