كتبه لموقع “ناشونال كاثوليك ريجيستر”: كريستوفر كاكزور*
نشر بتاريخ: 12/9/2018
ترجمة: إبراهيم العيسى
تدقيق: أمير صاحب
تصميم الصورة: أحمد الوائليّ
يقدم جوردان بيترسون، وهو من أكثر الكتّاب مبيعاً ومفكر شعبوي، سلسلة من الأفلام على شبكة الإنترنت يفسّر فيها بطريقة إبداعية سفر التكوين. نحاول في هذا المقال تبسيط وشرح قراءته وفهمه لقصة برج بابل. إذ يرى القصة تحذيراً من المخاطر الكامنة وراء تقديس الفكر والهاء العقل في المحاولات الطوباوية لإنشاء فردوس على الأرض (مدينة فاضلة).
تبدأ قصة برج بابل بعد حادثة نوح والطوفان، “الان الأرض كلها لغة واحدة وكلمات قليلة” سفر التكوين 11:1 . قال أولئك الأسلاف الأوائل: تعالوا نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه الأرض” سفر التكوين 11:4
بحسب بيترسون أنهم يريدون شق طريق إلى الفردوس. وتشييد كيان كبير وشامل يمكن أن يحل محل الفردوس. ومن خلال اتباع المنطق، كانوا يسعون لإنشاء مدينة فاضلة.
وفي تلك الأثناء تدخل الرب، “فنزل الرب ليرى المدينة والبرج الذين بناهما أبناء آدم” سفر التكوين 11:5
يرى القديس أوغستين في كتابه مدينة الله أنه لا ينبغي فهم هذه اللغة بالمعنى السطحي البسيط لها، فالله لا يتنزل مكانياً إذ إنه ليس شيئاً مادياً محصوراً في مكان محدد، بل هو عليم بكل شيء.
كما يذكر القديس توماس أكوينا أن الله يعرف كل شيء في الكون ليس من خلال النظر بالعين بل من خلال معرفته الأبدية التي يتميز بها فهو يعرف كل شيء كونه المسبب الأول والمحرك الرئيس والخالق.
ومن ثم قال الإله: “انظر إنهم شعب واحد ولهم جميعاً لغة واحدة، وهذه مجرد البداية لما سيفعلونه، ولن يكون هناك مستحيل أمامهم، هيا! فلننزل ونبلبل لغتهم، بحيث لا يفهمون بعضهم البعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها. فكفّوا عن بنيان المدينة جميعها. لذلك سُميت بابل، لأن الرب بدد لغة جميع سكان الأرض ومن هناك بددهم على جميع سطح الأرض.” سفر التكوين 6-9 :11
يصور هذا النص، بحسب بيترسون، الرب على أنه غيور وحقير. ولكن إن كان الرب بكل هذا الجمال، وكل هذه الحكمة، وكل هذه المحبة، فلا يمكن له أن يقوم بعمل الشر او انه غير حكيم أو حقير. فما الأمر إذاً؟
يرى بييترسون القصة على أنها تحذير من تقديس الفكر والهاء العقل (العقلية) والسعي وراء الفردوس على الأرض اليوتوبيا او (المدينة الفاضلة على الأرض). يجعل مذهب العقلية المنطق معبوداً بدل الله. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن هذا التحذير من العقلانية ليس إدانة للمنطق أبداً. على عكس بعض الأعراف والتقاليد الدينية، تناصر الكنيسة الكاثوليكية التوافق بين الدين والمنطق. بما فيها دراسة الفلسفة (حب الحكمة). فقد أسست الكنيسة الجامعات، بل من الخرافة القول إن الكنيسة عارضت العلوم. إلا أن هذا التنبيه الذي نذكره هنا من أن العقل الذي يعبد ما يقتنع به كما لو كان أمراً حتمياً مآله جهنم. أولئك الذين يعبدون الفكر يعتقدون أن المنطق وحده يوفر للبشر كل ما يحتاجونه للتطور .” في الحقيقة ليس بوسع المعرفة وحدها إيجاد أفضل حالة ممكنة (العبودية). المعرفة وحدها لا تجعلنا صالحين، أن تعلم الحق من الباطل شيء، وأن تفعل ما هو حق شيء آخر، إذ يتطلب ذلك الفضيلة بالإضافة إلى المعرفة. المعرفة وحدها لا تقوّم علاقتنا بالإله والبشر.
إن قصة برج بابل هي كذلك رمز للمدينة الفاضلة، فالله يوقف البناء في بابل لأن الأحلام الطوبابوية بالفردوس على الأرض تؤدي في الحقيقة إلى جلب الجحيم إلى الأرض. لبناء المدينة الفاضلة، يسعى الشموليون إلى إرساء نظام صارم يطال القول والفعل. وكل من لا يلتزم به تتم معاقبته وحتى قتله. يذكر أحد المدافعين الطوباويين عن جوزيف ستالين قوله: ” لا يمكنك تحضير طبق بيض مقلي دون كسر بضع بيضات” أو -كما في المحاولات الشيوعية لبناء المدينة المثالية- دون قتل أكثر من 85 مليون إنسان.
بيترسون ومقالاته النقدية القوية عن الرؤى الطوباوية
أولاً إن ما تسعى الرؤى الطوباوية إليه من مساواة في المردود للجميع هو سعي نحو المستحيل. في كل مجال، عند البشر وسرطانات البحر على حد سواء، تظهر وبشكل عفوي هرمية السيطرة والنفوذ. على البشر إذاً البحث عن شيء نافع يضمن بقاءهم على قيد الحياة مثل صيد الجواميس البرية، حصاد الذرة الصفراء، أو استغلال الطاقة الشمسية، وهنا يظهر أن بعض الأفراد أفضل من غيرهم في السعي لما هم بحاجته. يشير الإقتصادي توماس سويل إلى ذلك في كتابه التمييز والتفاوتات: تنتج عدم المساواة في المردود الى عدة عوامل خارجة عن سيطرتنا.
ثانياً، يتباهى من يحلمون بالمثالية بعلومهم ومعارفهم، فالأنظمة الاجتماعية الكبرى معقدة للغاية. وقد يؤدي أي تدخل فيها إلى عواقب غير مقصودة وغير مرغوب بها. وعوضاً عن تركيز السلطة في يد قيادة مركزية، من الأفضل ترك اتخاذ القرار في أيد من هم أقرب للحقائق المتعلقة بالأمر ذي الصلة. فهم أدرى الناس بالوضع على أرض الواقع. في الفكر الكاثوليكي، يتعارض مبدأ التبعية (أو تفريع السلطة) مع الإغواء الطوباوي لنظام يشمل العالم بأسره. “لا الدولة ولا أي أي مجتمع أكبر منها قادر على أن ينوب عن المبادرة ومسؤولية الأفراد والهيئات الوسيطة. (1883)
ثالثاً، يركز بعض الأفراد على المشاكل التي لا تمت لهم بصلة كون التعامل معها أسهل بكثير من التعامل مع المشاكل التي تخصهم. يشير بيترسون لذلك بقوله: “جميعكم يا من تقطعون على أنفسكم وعوداً مع بداية كل عام من أنكم سوف تغيّرون نظامكم الغذائي وتبدأون الذهاب إلى النادي الرياضي تدركون جيداً كم هو صعب تنظيم الدوافع أو الإلتزام بالأخلاق والقيم التي يتطلبها نظام ما، إنه صعب للغاية، ولا يقوم به الناس أساساً. بل على العكس يظلون يتسكعون ويضيّعون وقتهم. وأظن أنهم يبنون أبراج بابل. إن لم يكن باستطاعتنا إصلاح أنفسنا كيف بمقدورنا عندئذ إصلاح كل المجتمع؟
رابعاً، إنّ التركيز على الرؤى الطوباوية يبعدنا عما هو مهم ويمكن تطويره. بدلاً من تأسيس المدينة الفاضلة، بمقدورنا أن نطور أنفسنا وقدراتنا لنكون بأفضل ما يكون. ولهذا فإن اثني عشر قانوناً للحياة تركز على تحمل المسؤولية الشخصية لما نقوم به في حياتنا اليومية.
وأخيراً، يتخيل دوستوفسكي في كتابه مذكرات قبو ما سيحدث لو أننا بنينا المدينة الفاضلة. إذ يعتقد أننا سوف نشعر بالإستياء وندمرها كي نتمتع بما تخفيه لنا الحياة من مغامرات.
في كل جيل، هناك ما يغرينا لتقديس الفكر. وفي كل جيل هناك ما يغرينا لبناء مدينة فاضلة على الأرض. ولذا فإن قصة برج بابل تظل صالحة لكل زمان.
*أستاذ الفلسفة في جامعة لويولا ماريمونت ومؤلف كتاب الخرافات السبع الكبرى عن الكنيسة الكاثوليكية. الخرافات السبع الكبرى عن الزواج. وقضايا حياتية، خيارات طبية وكتب أخرى.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا