كتبه لصحيفة “ذي أتلانتيك”: فريد ي. فريد
منشور بتاريخ: 2/11/2018
ترجمة: مازن سفّان
تدقيق: آلاء عبد الأمير
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
في القاهرة وُجد الأسقف “إيبيفانيوس” يسبح في بركة دمائه، ودماغه خارج جمجمته المهشمة. اكتشفت جثة رئيس الدير القبطي ذو الأربعة والستين عاماً بالقرب من صومعته في دير القديس مقاريوس في الصحراء شمال غرب القاهرة، كان ذلك قبل بزوغ فجر أحد أيام يوليو/ تموز. كان في طريقه للصلاة، ولكن قبل أن يتمكن من إنجاز آخر عمل ديني له تم قتله، ويبدو أن أحد أتباعه هو من قتله. ضُرب الأسقف ثلاث مرات على الرأس بأداة حديدية، على الأرجح أنبوب، وذلك بحسب تحقيقات النيابة العامة التي حصلتُ عليها.
استحوذ التحقيق الجاري على مخيلة المصريين العاديين، والذين يطالبون بإجابات حول من يقبع خلف هذه الجريمة البشعة. إنهم مهتمون بشدة ليس لأن الجريمة وقعت في دير، بل لأن موت “إيبيفانيوس”، الرجل المعلم ذو اللحية البيضاء الناعمة والابتسامة الحانية، يمثل تحدياً جديداً للمجتمع المسيحي المحاصر بالفعل.
يشكل الأقباط، وهم أقلية دينية في مصر يقارب تعدادهم العشرة ملايين، حوالي عُشر نسبة السكان، على الرغم من صعوبة العثور على أرقام موثوقة.
إن الالتزام بشكل من أشكال المسيحية بدأ مع القديس “مارك” في القرن الأول، حيث عانى الأقباط ولقرون طويلة من الاضطهاد الديني، بما في ذلك على أيادي مليشيات متشددة مثل الدولة الإسلاميّة.
منذ أيام قليلة، أظهرت تقارير مقتل سبعة أقباط على الأقل عندما فتح رجال مسلحون النار على حافلتهم يوم الجمعة. بينما في قضية الدير يبدو أن العنف أتى من داخل المجتمع القبطي.
تم التعرف على اثنين من المشتبه بهم، وهم “وائل سعد تواضروس” ذو الأربعة والثلاثين عاماً، و”فلتاؤوس المقاري” ذو الثلاثة والثلاثين عاماً، من قبل المحققين. “وائل” الذي كان يُعرف بالاسم “أشعياء” قبل أن تعزله الكنيسة في أغسطس/آب، موجود حالياً في السجن، إذ اعترف بالجريمة خلال التحقيق، لكنه أنكر لاحقاً اعترافه بالقول أنه انتُزِع منه بالإكراه. فيما حاول “فلتاؤوس” أن ينتحر بعد أيام من مقتل الأسقف، ويرقد الآن في مستشفى القاهرة، بعد تعرضه للضرب والتعنيف.
وُجد راهب ثالث، “زينون المقاري”، والذي كان من المفترض أن يشهد في اشتراكه المزعوم بالجريمة، ميتاً. يذكر تقرير تشريح الجثة وجود آثار تسمم بمبيد حشري، والآن يُنظر إلى موته على أنه محاولة انتحار.
في ملفات التحقيق، يقول المحققون، بناءاً على اعتراف وائل الذي أنكره، أن المشتبه بهم خططوا لكي يصبح “فلتاؤوس” حارساً ل”وائل”. التقوا في صباح يوم ارتكاب الجريمة، وانتظروا الأسقف حتى يذهب لقدّاس الصباح، انقضوا عليه ثم أخلوا ساحة الجريمة متجهين إلى صومعاتهم.
عندما بحثت عن عائلة “وائل” في متجر خياطة ضيّق في أبو تيج؛ وهو مركز تجاري صغير يبعد عدة ساعات بالسيارة عن القاهرة، وجدت شقيقه “هاني تواضروس” يعمل في خضم الضرب الرتيب لآلة خياطة سنجر مزخرفة. في مقابلته الأولى مع الإعلام أكد “هاني” أن شقيقه الأصغر بريء، وأن هناك مشكلة في التحقيقات أقنعت عائلة وائل أن التهم الموجهة لابنهم ملفقة.
قال لي “هاني”: “يبدو الأمر أنهم رتبوا كل الأدلة وخاطوا منها “جلابية” تناسب أخي في القياس تماماً ليظهر أمام العامة أنه المجرم”. انتقد هاني الأكليروس لطريقة تعاونهم مع السلطات ولعزلهم شقيقه من الكنيسة؛ الأمر الذي عزز التصور أن وائل هو من ارتكب الجريمة. ويتابع “هاني” قائلاً: “تستطيع رؤية التعاون الوثيق بين الكنيسة والسلطات لتلفيق التهمة لشقيقي، حارس الدير العجوز قال صراحةً لنركز طاقتنا على الراهب الذي يملك مشاكل مع قيادة الكنيسة، وبهذا أصبح شقيقي كبش الفداء لهم”.
كان هناك خلافاً لاهوتياً عنيفاً بين “وائل” ورئيس الدير، وذلك بحسب اعترافات عائلة “وائل” ومسؤولين في الكنيسة. فقد تمحور الخلاف حول رجلين يتبعان مدرستي تفكير مختلفتين في تعريفهما للكنيسة.
أحدهما كان تابعاً ل”متّى المسكين”، وهو شخصية جذابة في الأوساط الكنسيّة، والذي دعى حتى وفاته عام 2006 إلى رهبنة أكثر انفتاحاً نحو الداخل، والعودة إلى حقبة العبادة غير المرتبطة بمشتقات الحداثة. بينما كان الآخر منحازاً إلى البابا “شنودة الثالث”، القائد الروحي الراحل الذي مارس تأثيراً كبيراً على المسيحيين المصريين. كان البابا “شنودة” أحد أتباع المسكين، ولكنه شرع في إظهار الكنيسة أكثر في الحياة العامة حتى وفاته عام 2012.
كان كل من شنودة والمسكين في نفس الدير خلال خمسينات القرن الماضي. كما كانا مثقفان كبيران، ومعروفان بكتاباتهما الإكليرية الضخمة والانتقادات البلاغيّة التي ألقاها كل واحد منهما باتجاه الآخر. وجذب كل منهما مئات آلاف الأقباط المؤيدين إلى معسكراتهم الخاصة.
تشرح “إليزابيث منير” الخبيرة في الشؤون القبطية في جامعة كامبيردج ذلك بقولها: “آمن المسكين أن الكنيسة هي مؤسسة روحية لا يجب أن يكون لها دور سياسي ولهذا فعلى رجال الإكليروس عدم الانخراط في النزاعات السياسيّة، أما شنودة، الذي كان شخصيّة مسيحيّة فاعلة في الوسط العام، فقد كان له رأي آخر في الموضوع”.
كان الأسقف “إيبيفانيوس” تابعاً متحمساً للمسكين، في حين أن “وائل” تم رسمه كاهناً على يد البابا “شنودة”. بعد وفاة البابا “شنودة” ازداد الخلاف بين قيادة الدير. أصبح “وائل” أكثر صخباً بخصوص إدارة الأمور المالية والروحية تحت قيادة أ”بيفانيوس”، وذلك بحسب أرقام الكنيسة التي وثقت تلك الحدة في الوثائق المنشورة على صفحة الكنيسة الرسميّة على موقع فيس بوك.
ظهر الاقتتال الداخلي للعلن في فبراير/شباط. إذ طلب “إيبيفانيوس” والمجمّع المقدس، وهو الجسم التنظيمي للكنيسة، من البابا أن يعزل “وائل”، وتعد هذه أقصى عقوبة يوصم بها الراهب، وذلك لفشله في إطاعة قواعد الدير. وقد وقعت مجموعة من 52 راهباً عريضة، عاينتُ نسخة منها أرتني إياها عائلة “وائل”، تحث بابا الأقباط “تواضروس” الثاني(لا تربطه علاقة قرابة بوائل) على إبقاء وائل في مرحلة تقييم السلوك الجيد. قام المجمع المقدس بعزل “وائل” على أية حال بعد عدة أيام من مقتل “إيبيفانيوس”.
إن الخلاف الذي تراكم على مدى عقود من المرجح أن يشيح برأسه مرة أخرى، لأن الكنيسة غير عازمة على إظهار الشفافيّة بخصوص مشاكلها السياسيّة العميقة، وذلك بحسب “إيشاك ابراهيم” الخبير البارز في الشؤون الدينية العامل مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصيّة. يقول “ابراهيم”: “سنرى حوادث مشابهة تتكرر مرة أخرى في المستقبل القريب إذا لم يتم التعامل مع هذه القضايا العالقة”.
وتزعم عائلة وائل أن التقنيات التي تم استخدامها في التحقيق مع “وائل” هي ما أرغمته بشكل فعال على الاعتراف بالجريمة. إذ تزعم عائلة “وائل”، استناداً إلى حديثهم معه، أن المساعد الشخصي للبابا تواضروس الثاني كان موجوداً خلال التحقيقات، وأشرف بنفسه على التعذيب الجسدي والنفسي الذي تعرض له وائل، واتصل بالمحقق الرئيسي بشكل متكرر للسؤال حول إذا ما اعترف وائل بالجريمة أم لا. تقول العائلة أن “وائل” تعرض للضرب والتحقيق من قبل أفراد الشرطة لمدة 22 ساعة متواصلة، قبل أن يتم تغييبه قسراً لمدة أربع أيام. التغييب القسري أمر شائع في مصر، بحسب منظمة العفو الدولية.
لقد تم إدراج هذه الإدعاءات في مذكرة تقدم بها محامي وائل حيث أراني نسخة منها. كما طلب المحامي من المدعي العام في مصر إجراء تحقيق كامل عن هذه الإدعاءات، ولكن لا يوجد أي تقارير تشير أنه تم عمل شيء بهذا الخصوص، بالإضافة إلى امتناع كل من مساعد البابا الشخصي والمتحدث الرسمي باسم الكنيسة “بولص حليم” عن التعليق بخصوص هذه الإدعاءات.
خلال زيارة مختلفة لوائل في بدايات سبتمبر/أيلول تمكنت العائلة من رؤيته لساعة واحدة فقط، وقد كانت رؤية موجعة ل”سعد تواضروس”، والد وائل، الذي كان يذرف الدموع خلال حديثه إلي في متجر الخياطة التابع للعائلة حيث قال: “لقد أخبرني حين رأيناه في غرفة الانتظار في السجن أنه لم يقتل أحداً، أنه لم يفعل ذلك، لقد أعاد ذلك بإصرار”. في آخر جلسة استماع في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني احتفظ وائل بأقواله حول براءته.
بالنسبة ل”فلتاؤوس”، الراهب الذي مازال في المستشفى بعد محاولته الانتحار، يرى محاميه أنه سيخرج بريئاً من القضية في مرحلة ما. يبدو أن “فلتاؤوس” لا يمتلك أي خلاف إيديولوجي مع الأسقف وكان، في الحقيقة، قد كتب كتاباً دينياً قدّم له الأسقف “إيبيفانيوس” بنفسه.
أخبرني راهب في دير القديس مقاريوس فضل عدم الكشف عن اسمه بسبب حساسيّة التحقيق الجاري، خلال مكالمة هاتفيّة من داخل الدير أنه رأى بأم عينه جدالاً دائراً بين الأسقف ووائل. وأضاف أن الأمور قد استقرت في الدير لكن لا تزال هذه المرارة قائمة بين أتباع المسكين وأتباع شنودة.
تفاعل البابا “تواضروس الثاني”، الذي يقدم نفسه كوسيط لاهوتي بدلاً من الدفاع عن أي من مدرستي التفكير، مع الأزمة بمنع الرهبان من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنعهم أيضاً من مغادرة أديرتهم دون إذن. كما زار البابا دير القديس مقاريوس، حيث أكد أن الرهبان المسيحيين المصريين يجب أن يحافظوا على تقاليدهم التقشفيّة.
تقول “إليزابيث منير” : “يهدف البابا إلى تهدئة الوضع من خلال وقف النقاشات في وسائل الإعلام ومنع المواجهات البارزة. ومع ذلك، فقد أثار هذا التصرف الإحباط على المستوى الشعبي، إنه يسعى جاهداً لتقديم نفسه في موقف محايد، مع كل الحذر لتجنب أي مزيد من الاحتكاك بين السلطات الكنسيّة، لكنه لم يكن ناجحاً في هذا”.
المقال باللغة الإنجليزيّة: هنا