كتبه لموقع (بيغ ثينك): سكوتي هيندركس
منشور بتاريخ: 22 شباط 2018
ترجمة: ياسر منهل
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم: مينا خالد
ما الذي يجعلك سعيداً؟ هل هو المال أم السلطة أم الأصدقاء أم المشروبات الكحولية أم الإفراط في تناول الطعام أم الجنس، أو هي المخدرات أو ربما أغاني الروك أند رول؟ يحمل العديد من الناس مخاوف حول كيفية الوصول إلى السعادة، ومع ذلك يفشل العديد من الناس في التعاطي مع ما يعتقدون أنه سيحقق لهم السعادة الآنية.
فالقضية المطروحة حول الشيء الذي يجعلنا سعداء وكيفية التعاطي مع هذه المسألة، تعد واحدةً من أقدم المعضلات في الفلسفة وتعد السؤال الذي حظي بالاهتمام الأكبر من قبل الفلاسفة، فالأفكار المطروحة حول الكيفية التي من الممكن أن توصلنا للسعادة، تعد واحدة من أكثر الأفكار المطبقة التي تناولها الفلاسفة على مر العصور.
وسنتناول هنا فيلسوفاً كرس حياته لإيجاد طريقة ثورية للوصول للسعادة يمكنها أن تنفعنا في أيامنا هذه.
لقد كان أبيقور فيلسوفا هيلينستياً، صب جل اهتمامه وتركيزه على الشيء الذي يجعلنا سعداء وكيف نعمل لجعل أنفسنا سعداء، كما أن لأبيقور أفكاراً فلسفية أخرى تناولت مواضيع أخرى مثل: الفيزياء ونظرية المعرفة والعقد الاجتماعي والدين، وهنا أشجعك على قراءتها جميعاً.
لقد أدرك أبيقور أن الأمور التي تجعلنا سعداء هي غير تلك التي نسعى لها في حياتنا اليومية، فقد وجد بأننا نضع الصداقة في مرتبة عليا في حين إننا قليلاً ما نلتقي بأصدقائنا، وأدرك أبيقور كذلك بأننا نريد أن نستمتع بما نملك لكننا نكابد كثيراً للحصول على أشياء نادراً ما يمكننا الحصول عليها، ولذلك فقد قادته هذه التناقضات، وتناقضات أخرى مشابهة، إلى القيام بتجربة شجاعة.
إذ انتقل أبيقور مع مجموعة من أصدقائه إلى منزل كبير يطلقون عليه اسم “الجنة”، حيث عاشوا حياة مشتركة، رغم وجود شيء من الطبقية فيما بينهم، فقد عاشوا حياةً بسيطةً، وقد خصصوا وقتهم للتأمل والتفكير وتجنبوا الحياة المدنية؛ في هذا المجتمع المصغر سعى الأبيقوريون إلى الوصول للسعادة، وكانوا قد وضعوا لافتة على باب هذا المنزل تفسر الكثير للمارة عن طبيعة هذه المدرسة (البيت)، والتي أصبحت معروفة آنذاك في أرجاء العالم الإغريقي؛ لقد كانت تجربتهم ناجحةً جداً، إذ قام أتباعهم بتشكيل عدة مجتمعات مشابهة لمجتمع المنزل هذا.
وفي الوقت الذي يصعب فيه على الكثيرين منا الانتقال إلى بيت ريفي كبير نعيش فيه حياة مشتركة مع أصدقائنا المقربين، إلا إنه في الوقت نفسه يمكننا التعلم من الفيلسوف أبيقور ومن تجربته هذه، إذ لا تزال العديد من أفكاره تطبق إلى يومنا هذا رغم مرور ألفي سنة على رحيله.
حول الصداقة
كان أبيقور ثابتاً في دعمه للصداقة بصفتها طريقاً حاسماً للسعادة، إذ اقتبس شيشرون من أبيقور هذه المقولة الشهيرة: “من بين كل الأمور التي أبدعتها الحكمة للوصول لحياة مُنَعمة، لا يوجد أهم ولا أنفع من الصداقة”.
ففي الوقت الذي نحب جميعنا أصدقائنا، إلا إننا نمضي القليل جداً من الوقت معهم؛ إلا إن منزل أبيقور هذا ضَم جميع الأصدقاء وجعل التواصل متاحاً دائماً معهم، وقد فضل أبيقور الصداقة على الكثير من الأشياء المادية الثمينة، إذ يقول: “إن الشخص الذي تتناول معه الطعام أهم بكثير من نوعية الطعام الذي تتناوله”.
حول الوسطية والاعتدال
لكون أبيقور فيلسوفاً إغريقياً، فقد كان مهتماً جداً بالاعتدال، فرغم معرفته بالمتعة الكبيرة الناتجة عن الانغماس بالملذات، إلا إنه أدرك أيضاً إن الترف المفرط سيجعلنا ننظر إلى محيطنا الطبيعي بإحباط، مما يقلل من سعادتنا على المدى البعيد.
والحل الذي يرتئيه أبيقور لهذه المعادلة يكمن في الحصول على حاجيات مادية بسيطة باعتدال، لكيلا ننغمس كثيراً في الأشياء التي نحب، وبطبيعة الحال فإن هذا الاعتدال المنشود يجب أن نتبعه باعتدال أيضاً، كما ويستحسن بعض الشيء من الترف أحياناً، فالمشكلة تكمن في سعينا للاستحواذ على ما هو أكثر من حاجتنا.
فأبيقور نفسه لم يكن يتناول أكثر من الخبز والزيتون والجبنة في الغالب، إذ يرى بأن هذا الطعام كفيل بأن يجعل أفخم الأطعمة مساوية لأي وليمة كبيرة يجتمع عليها الأصدقاء، من حيث السعادة الناتجة عن تناول الطعام.
“لا يمكنك العيش على الخبز وحده، لكنك ستكون أكثر سعادة لو حاولت ذلك”.
حول أنواع المتع
أدرك أبيقور أن هنالك أنواع عديدة من المُتع والآلام، وقد لخص ذلك بطريقتين مبسطتين: مُتع متغيرة ومُتع دائمة.
فالمتع المتغيرة تتعلق بالمتع التي نحتاجها لإشباع رغباتنا، فلو كنا جائعين وتناولنا الطعام عندئذ نكون حصلنا على متعة متغيرة، لكون أنها أشبعت رغبتنا في الطعام، أما حين تُلَبّى كل رغباتنا نكون عندئذ قد وصلنا إلى المتعة الدائمة التي ملأت جميع الرغبات فينا، وهي ما يسميه “السعادة الخالصة”، فواحدة من أهداف العيش باعتدال ووسطية تكمن في التخلص من رغباتنا غير الضرورية لكي نصل للسعادة الدائمة بصورة أسهل.
كما رفع أبيقور من شأن المتع العقلية وفضلها على المتع المادية، إذ تشمل المتع العقلية كل من دراسة الفلسفة والتفكير وإمضاء الوقت مع الأصدقاء، إذ لا تتسبب هذه الأشياء في خلق رغبات لاحقة قد تجعلنا نزيغ عن طريقنا في السعي نحو المتعة، كما ويرى أبيقور بأنه من الأفضل تجنب الاختلاط بالحياة المدنية كثيراً لكونها قد تقودنا إلى رغبات لا يمكن إشباعها.
أما المتع الجسدية أو المادية مثل الجنس والخمر والسلع الفاخرة، فيمكنها أن تقودنا بسهولة إلى رغبة لا يمكن إشباعها نحو المزيد من المتع المادية، لذا ينصح أبيقور بعدم الانغماس في هذه المتع كثيراً.
أليس هذا الرجل من الساعين نحو الملذات؟ نعم ولكن لا يبدو أنه منغمس جداً في الملذات.
تعد الأبيقورية فلسفة مُتعة وملذات، أي إنها فلسفة قائمة على أساس الفكرة القائلة إن السعادة أو تجنب الألم، أهم ما في هذه الحياة؛ وفي الوقت الذي يربط فيه الناس المتعة أو اللذة بالرذيلة والفجور والشر، نجد أن أبيقور قد سلك منحى أكثر اعتدالاً ووسطيةً نحو الوصول للمتعة.
لا تخلو فلسفة أبيقور من نزعات أخلاقية تضع العيش بفضيلة وخير هدفاً أسمى للحياة، إذ أكد أبيقور ذلك بالقول: “من المستحيل أن نعيش حياةً سعيدةً من دون العيش بحكمة وعدل وإحسان، ومن غير الممكن العيش بحكمة وعدل وإحسان من دون عيش حياة سعيدة”، ورغم ذلك فإن الأبيقورية لا تزال تُعتبر فلسفة مُتعة وملذات، كون أن أبيقور قد وضع السعادة في أعلى سلم أولوياتِه.
إن كانت الأبيقورية فلسفة ناجحة إلى هذا الحد، فأين أتباعها اليوم؟
لقد شكل أتباع أبيقور مجتمعات انتشرت حول حوض المتوسط، بيد أن الكنيسة المسيحة في بدايتها قمعت الأبيقورية في القرن الميلادي الثالث وحولت بيوتهم إلى أديرة، وقد استمر اضطهاد الأبيقوريين لقرون عديدة، إذ وضعهم دانتي في الحلقة السادسة من حلقات الجحيم والتي كانت مخصصة للمنافقين والمهرطقين في روايته الشهيرة “الجحيم”؛ وفي الوقت الذي بدأت الأبيقورية باسترداد عافيتها، لا تزال هنالك نظرة لمجتمعات الأبيقوريين على أنها بيوت تقدم فيها الخمور بحرية.
منذ نشأة هذه الفلسفية كانت هنالك إشاعات متداولة وقصص مختلقة عن هؤلاء الساعين نحو الملذات عن طريق إقامة حفلات ماجِنة فيها عربدة جنسية جماعية؛ لقد كانت هذه القصص محض افتراء تماماً، وحتى إلى وقت لاحق اعتقد بعض المفكرين الأكثر احتراماً من أمثال شيشرون بأن الأبيقوريين طلاب ملذات دنيوية فقط لا يعيرون الفضيلة أي اهتمام.
وفي حين لا يمكننا جميعا الانتقال للعيش سوية مع أصدقائنا المفضلين في أيامنا هذه، باستثناء السكن في مساكن الجمعيات التعاونية، إلا إنه في مقدورنا جميعاً الاستفادة من الرؤى والأفكار التي قدمتها تجربة أبيقور هذه، والتي تعد واحدة من أكثر التجارب استفاضة، والتي سعت نحو تغيير منظورنا للسعادة، على مر التاريخ الإنساني، وسأكتفي بترككم مع بعض الاقتباسات المأخوذة من أقوال الأبيقوريين الأوائل حول كيفية الوصول للسعادة في أربع خطوات، ويمكنك تطبيقهم كما تشاء:
لا تخف من الرب،
لا تقلق من الموت،
من السهل الحصول على كل ما هو جيد،
من السهل تحمل ما هو سيء.
رابط المقال باللغة الإنكليزية: هنا