كتبه لصحيفة (ذي كارديان): يوهان هاري
منشور بتاريخ: 7/1/2018
ترجمة: آلاء عبد الأمير
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم الصورة: حسام زيدان
[spacer height=”20px”]
في سبعينيات القرن الماضي تم اكتشاف حقيقة تتعلق بالاكتئاب بطريق الصدفة؛ حقيقة تم تنحيتها جانباً بسرعة، لأن تطبيقاتها كانت انفجارية وغير ملائمة، حيث أصدر أطباء نفسيون أمريكيون كتاباً يشرح بالتفصيل جميع الأعراض المتعلقة بالأمراض العقلية، لغرض تشخيصها ومعالجتها بطرق متشابهة عبر البلاد. أطلق على الكتاب اسم (دليل التشخيص والإحصاء)؛ في الطبعة الأخيرة منه وضعوا تسعة أعراض يجب أن يظهرها المريض حتى يتم تشخيصه بالاكتئاب، على سبيل المثال، انحسار اهتمامه بالمتعة أو امتلاكه لمزاج سيء متواصل، ولكي يستنتج الطبيب إصابتك بالاكتئاب فيجب أن تُظهِر خمسة من هذه الأعراض على مدى عدة أسابيع.
تم إرسال الدليل إلى الأطباء في أرجاء الولايات المتحدة وبدأوا باستخدامه لتشخيص المرضى، لكنهم رجعوا بعد فترة للمؤلفين، مشيرين لأمرٍ كان يزعجهم، فلو أنهم اتبعوا هذا الدليل، سيتحتم عليهم تشخيص كل شخص يمر بفترة حداد على أنه مصاب بالاكتئاب ثم البدء بإعطائه علاجات طبية، إذ اتضح أن هذه الأعراض تظهر تلقائياً عند فقدانك لقريب، وهكذا كان على الأطباء معرفة إذا كان من المفترض أن يبدأوا بإعطاء الأدوية لجميع الأشخاص المفجوعين في أميركا.
تشاور المؤلفون وقرروا وضع شرط خاص لقائمة أعراض الاكتئاب، وذكروا أن أيّاً من هذه الأعراض يؤخذ به إذا كنت ممن فقدوا شخصاً عزيزاً خلال العام الماضي، ففي تلك الحالة سيكون ظهور الأعراض طبيعياً ولا يدل على وجود اضطراب اكتئابي؛ أطلق على الشرط اسم (استثناء الحزن) وبدا أنه كان حلاً للمشكلة.
وبعد مرور سنوات وعقود عاد الأطباء بسؤال آخر، إذ كان يتم تشجيع الأطباء في جميع أنحاء العالم على إخبار المرضى بأن الاكتئاب هو في الحقيقة خلل كيميائي يصيب الدماغ، وبأن سببه انخفاض السيروتونين، أو غياب طبيعي لمواد كيميائية أخرى، وليس بسبب نمط حياة معين. عندها بدأ الأطباء بالتساؤل كيف يتفق هذا الأمر مع (استثناء الحزن)، فلو اتفقنا أن ظهور أعراض الاكتئاب هو أمر منطقي واستجابة مفهومة لمتغيرات حياتية (كفقدان شخص عزيز)، ألا يمكن حينها أن ينطبق هذا على أمور حياتية أخرى؟ كأن تفقد وظيفتك؟ وماذا إن كنت عالقاً في وظيفة تكرهها لأربعين سنة القادمة؟ ماذا لو كنت وحيداً وبلا أصدقاء؟
بدا أن استثناء الحزن قد صنع ثغرة في الادعاء القائل إن أسباب الاكتئاب تقبع بداخل جمجمتك، إذ إنه يضع احتمال وجود أسباب خارجية، موجودة في العالم، أسباب بحاجة لأن يتم التحري عنها وحلّها. كان هذا نقاشاً لم يكن الطب النفسي السائد على استعداد لخوضه (مع بعض الاستثناءات)، وهكذا استجابوا بطريقة بسيطة، عن طريق التنازل عن شرط استثناء الحزن؛ مع كل طبعة جديدة من الدليل كانوا يقومون بتقليص مدة الحزن المسموحة لأحدهم قبل أن يتم تشخيص إصابته بمرض عقلي، انخفضت الفترة الزمنية من سنة واحدة إلى عدة أشهر وفي النهاية غُيبت تماماً، والآن إذا توفي طفلك في العاشرة صباحاً، فإن لطبيبك القدرة على تشخيص إصابتك بمرض عقلي في العاشرة ودقيقة، ثم المباشرة بإعطائك الأدوية اللازمة.
الدكتورة (جوان كاكياتوري) من جامعة ولاية أريزونا، أصبحت خبيرة بارزة في استثناء الحزن عقب وفاة ابنها (شايان) أثناء الولادة. لقد رأت الكثير من الأشخاص الحزينين يتم إخبارهم بأنهم مريضون عقلياً بسبب اظهارهم أعراض الحزن؛ أخبرتني أن هذا النقاش يكشف عن المشكلة الأساسية في طريقة حديثنا عن الاكتئاب والقلق وأشكال أخرى من المعاناة: “نحن لا نأخذ السياق بنظر الاعتبار”، بل نتصرف على أن الحزن البشري يمكن تقييمه بشكل منفصل بالاستناد إلى قائمة من الشروط التي يمكن فصلها عن حياتنا، ونصنفه كمرض عقلي، فلو بدأنا بأخذ حياة الناس الفعلية بنظر الاعتبار عند علاج الاكتئاب والقلق، فإن ذلك سيتطلب “نظام إصلاح كامل” بحسب تعبيرها، وتقول: “حين يكون لدينا شخص مصاب بحزن بالغ، يجب علينا حينها التوقف عن علاج الأعراض، فالأعراض مؤشر على وجود مشكلة أعمق، وعلينا بلوغها”.
[spacer height=”20px”]
كنت في سن المراهقة حين تناولت أول دواء مضاد للاكتئاب؛ كنت واقفاً تحت أشعة الشمس الضعيفة، خارج صيدلية في مركز للتسوق في لندن، وكانت أقراص الدواء بيضاء اللون وصغيرة، وحين ابتلعتها بدت كأنها قبلة كيميائية. كنت قد ذهبت في ذلك الصباح إلى الطبيب وأخبرته بحرج وارتباك أن الحزن يتسرب مني ولا أملك السيطرة عليه، مثل رائحة كريهة، وبأن هذا الحال مستمر منذ عدة سنوات، بالمقابل أخبرني الطبيب قصة عن وجود مادة كيميائية اسمها السيروتونين مسؤولة عن الإحساس الجيد، كما قال إن أدمغة بعض الأشخاص تفتقر لهذه المادة بشكل طبيعي، ومن الواضح أنك واحد منهم، ولحسن الحظ يوجد الآن عقاقير جديدة من شأنها إعادة مستوى السيروتونين الخاص بك إلى مستوياته الطبيعية، تناولها وستكون بخير. وأخيراً فهمت ما كان يحدث لي والسبب وراءه.
ولكن بعد بضعة أشهر حدث أمر غريب، إذ عاد الألم مجدداً، ولم يمر وقت طويل حتى بدأت أشعر تماماً كما شعرت في البداية، فعدت إلى الطبيب وأخبرني أن جرعة دوائي منخفضة، وبالتالي جرعة 20 ملليغرام أصبحت 30 ملليغرام؛ وقرص الدواء الأبيض أصبح أزرقاً؛ تحسنت لبضعة أشهر، ثم رجع الألم ثانيةً، كانت جرعة الدواء ترتفع حتى وصلت 80 ملليغرام، بقيت على هذه الحال لعدة سنوات مع السماح ببعض الاستراحات القصيرة، كل ذلك ولم يتوقف إحساسي بالألم.
[spacer height=”20px”]
بدأت بالقيام ببحوث تتعلق بكتابي (Lost Connections: Uncovering The Real Causes of Depression – and the Unexpected Solutions/ الصِلات المفقودة: كشف الأسباب الحقيقية للاكتئاب والحلول غير المتوقعة)، فقد كان يحيرني أمران؛ لم ما زلت مكتئباً رغم قيامي بكل ما أخبِرتُ به؟ قمت بتحديد مستويات السيروتونين المنخفضة في دماغي وكنت أعمل على رفعها، مع ذلك ما زلت أشعر بالسوء، والأمر الآخر هو لِمَ يوجد الكثير من الأشخاص في العالم الغربي يشعرون بنفس الطريقة؟ فحوالي واحد من كل خمسة بالغين في الولايات المتحدة يتناول دواءً واحداً على الأقل لمعالجة مشاكل نفسية. في بريطانيا تضاعفت وصفات مضادات الاكتئاب خلال عقد من الزمن، إلى درجة أن واحداً من كل أحد عشرة شخصٍاً منا يتناول هذه الأدوية للسيطرة على هذه المشاعر. ما الذي كان يحدث مسبباً انتشار الاكتئاب والقلق بهذا الشكل؟ بدأت أسأل نفسي هل من المعقول أن نمتلك جميعاً نفس الخلل الكيميائي التلقائي في أدمغتنا في ذات الوقت؟
وللعثور على الإجابات، انتهى بي الأمر في رحلة امتدت 40 ألف ميل عبر العالم، تحدثت إلى كبار علماء الاجتماع ممن يبحثون في هذه الأسئلة، كما تحدثت لأشخاص ممن تغلبوا على الاكتئاب بطرق غير متوقعة، من قرية الأميش في إنديانا، وحتى المختبرات التي تجري تجارب مذهلة في بالتيمور، تعلمت من هؤلاء الأشخاص عن أفضل الدلائل العلمية والأسباب الحقيقية للاكتئاب والقلق، ووجدت دلائل تشير إلى إن سبعة عوامل في طريقة حياتنا اليوم هي التي تسبب ارتفاع مستويات الاكتئاب والقلق، بالإضافة لاثنين من العوامل الأحيائية الحقيقية (كالجينات) التي اذا اجتمعت مع هذه القوى فقد تجعل الوضع أسوأ. حين عرفت ذلك، أصبحت قادراً على رؤية أن مجموعة مختلفة من الحلول لاكتئابي، ولاكتئابنا، كانت بانتظاري.
لفهم أسلوب التفكير الجديد هذا كان عليّ التحري عن القصة القديمة، القصة التي منحتني الكثير من الراحة في البداية. البروفسور (ايرفينغ كيرش) في جامعة هارفارد يعتبر (شارلوك هولمز) حين يتعلق الأمر بمضادات الاكتئاب الكيميائية، ففي تسعينيات القرن الماضي كان يصف العقاقير المضادة للاكتئاب لمرضاه بثقة، لأنه علم أن الأدلة العلمية المنشورة تشير إلى تحسن ملحوظ في 70% ممن تعاطوا هذه العقاقير، ثم بدأ في التحري عن هذا الأمر أكثر، وتقدم بطلب (حرية المعلومات) للحصول على البيانات المتعلقة بهذه العقاقير والتي كانت تجمعها شركات الأدوية سراً؛ لقد كان واثقاً من عثوره على تأثيرات إيجابية متنوعة، لكنه حينها اصطدم بشيء غريب.
[spacer height=”20px”]
نعلم جميعنا أنك حين تلتقط صور سيلفي لنفسك فإنك تلتقط 30 صورة مختلفة، ترمي 29 صورة منها، تلك التي تبدو فيها بعينين ذابلتين أو ذقن مزدوجة، وتقوم باختيار أفضل واحدة لتكون صورة حساب (تيندر) الخاص بك. اتضح أن هذا ما تفعله شركات الأدوية التي تمول تقريباً جميع البحوث المتعلقة بهذه العقاقير، فهم يمولون عدداً ضخماً من الدراسات، يتخلصون من تلك التي تقول إن للعقاقير تأثيراً محدوداً جداً، ويقومون بنشر الدراسات التي تظهر النجاح. وكمثال: في إحدى التجارب أعطي العقار لـ 245 مريضاً، لكن شركة الأدوية نشرت نتائج 27 منهم فقط، أولئك ممن أبدوا تجاوباً إيجابياً مع العقار. فجأة أدرك البروفيسور (كيرش) أن نسبة 70% لا يمكن أن تكون صحيحة.
اتضح أن ما نسبته 65-80% ممن يتعاطون مضادات الاكتئاب يعاودهم المرض خلال سنة. كنت أظن أنني غريب لبقائي مكتئباً رغم تناولي للأدوية، وفي الحقيقة كما شرح لي (كيرش) في ماساتشوستس أني حالة قياسية، فلهذه الأدوية تأثير إيجابي على بعض الأشخاص، لكن من الواضح أنها ليست الحل الرئيسي للغالبية منا، لأننا ما نزال مكتئبين عند تناولها. في الوقت الراهن نحن نعرض على الأشخاص المصابين بالاكتئاب لائحة تحمل خياراً واحداً، وأنا متأكد بأنني لا أريد شيئاً منها، لكن عند قضائي للمزيد من الوقت معه أدركت أن بوسعنا توسيع اللائحة.
هذا الأمر دفع بالبروفيسور (كيرش) لطرح سؤال أساسي إضافي، كيف نعرف أن الاكتئاب يسببه انخفاض مستويات السيروتونين بدايةً؟ وحين شرع في التنقيب عن الأدلة اتضح أنها هشة بشكل ملفت، وأوضح البروفسور (أندرو سكول) من (برينستون)، الذي يكتب في مجلة (لانسيت)، أن إرجاع أسباب الاكتئاب إلى انخفاض السيروتونين بشكل عفوي هو “مضلل بشدة وغير علمي”، أما الدكتور (ديفيد هيلي) فقد قال لي: “لم يكن هناك أي أساس لذلك، ابداً. كان مجرد أمر للتسويق”.
[spacer height=”20px”]
لم أكن أرغب بسماع ذلك، فعند استقرارك على قصة تتعلق بالألم الذي تشعر به، سيصبح من الصعب جداً تحدي هذه القصة، فهي تشبه اللجام الذي أضعه على حزني لإبقائه تحت السيطرة، خشيت أني غن عبثت بالقصة التي عشت معها طويلاً فسأطلق سراح الألم ليجري حراً كحيوان بلا قيد، لكن الدليل العلمي كان واضحاً ولم يكن بمقدوري تجاهله.
إذاً ما الذي يحدث في الحقيقة؟ حين أجريت مقابلات مع علماء الاجتماع من جميع أنحاء العالم، من ساو باولو وحتى سيدني، من لوس انجلس وحتى لندن، بدأت ألاحظ صعود صورة غير متوقعة؛ نعلم جميعاً أن كل كائن بشري يمتلك احتياجات مادية أساسية: حاجته للطعام والماء والمأوى والهواء النظيف؛ اتضح إنه وبنفس الطريقة فإن للكائنات البشرية احتياجات نفسية أساسية، فنحن بحاجة للإحساس بالانتماء، وبأننا محط تقدير، وبأننا نجيد فعل شيء ما، نحن بحاجة لأن نشعر بامتلاكنا لمستقبل مضمون. ويوجد دليل متزايد على أن ثقافتنا لا تقابل هذه الاحتياجات النفسية بالنسبة لبعض الأشخاص، وربما للغالبية منهم. تعلمت عن هذا الأمر بطرق مختلفة، فقد أصبحنا منفصلين عن أمور نحتاجها بشدة، وهذا الانفصال هو ما يقود القلق والاكتئاب ليحيط بنا.
لننظر إلى إحدى هذه الأسباب، وسيكون بمقدورنا رؤية إحدى الحلول حالما نفهم الامر بشكل مختلف، إذ يوجد دليل قوي على أن البشر بحاجة للشعور بأن حياتهم ذات معنى، وبأنهم يفعلون شيئاً لغرض إحداث تغيير ما، إنها حاجة نفسية طبيعية، لكن بين عامي 2011 و2012 أجرت شركة الاقتراع (غالوب) دراسة مفصلة هي الاكبر حول الامر الذي ننفق جل وقتنا في عمله، وظائفنا اليومية، فوجدوا إن 13% من الأشخاص يشعرون بالرضى عن عملهم وبأنه ذو هدف ويتطلعون للقيام بالمزيد منه، بينما 63% لا يشعرون بالرضى لكنهم يؤدونه كمن يسير أثناء نومه، فيما كانت نسبة من يكرهون وظائفهم 24%.
أغلب المصابين بالاكتئاب والقلق الذين أعرفهم يقعون ضمن نسبة 87% ممن لا يحبون وظائفهم. بدأت بالبحث عن أية أدلة على أن هذا الامر ربما يكون مرتبطاً بالاكتئاب، فاتضح لي إن اكتشافاً يعود لسبعينات القرن الماضي أجاب عن هذا التساؤل، بواسطة عالم أسترالي يدعى (مايكل مارموت)، أراد التحقيق في أسباب التوتر في مكان العمل واعتقد إنه وجد المختبر المثالي لاكتشاف الإجابة؛ الخدمة المدنية البريطانية في (وايتهول)؛ هذا الجيش الصغير من البيروقراطيين تم تقسيمه إلى 19 طبقة مختلفة، من السكرتير الدائم في الأعلى نزولاً إلى المنضّدين. ما كان يبتغي معرفته بدايةً هو من سيتعرض لأزمة قلبية بسبب التوتر أولاً، الرؤساء الكبار في الأعلى أم الموظفين تحتهم؟
أخبره الجميع: إنك تضيع وقتك، فمن الواضح أن رئيس العمل سيكون أكثر عرضةً للضغوط بسبب توليه لمسؤوليات أكبر، ولكن حين نشر (مارموت) نتائجه كشف عن أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فكلما انخفض ترتيب الموظف في الهرم الوظيفي ارتفعت مستويات التوتر وكذلك احتمالات إصابته بأزمة قلبية، والآن كان عليه معرفة السبب.
[spacer height=”20px”]
وبعد إنفاق سنتين إضافيتين في دراسة الخدمة المدنية اكتشف أكبر هذه العوامل، فقد اتضح أن عدم امتلاكك للسيطرة على مجريات عملك سيقودك للتوتر بشكل كبير، الأمر الذي سيؤدي للاكتئاب بصورة حاسمة، إذ يمتلك البشر رغبة فطرية للشعور بأن ما يفعلونه بشكل يومي يحمل مغزى من نوع ما، وحين تقع أنت نفسك تحت سيطرة شخص آخر سيصبح من الصعب خلق معنى من هذا العمل.
فجأة اتضح أن إصابة الكثير من أصدقائي بالاكتئاب ليس له أية علاقة بما يحدث داخل أدمغتهم، ولكنه مرتبط بمحيطهم؛ حتى أولئك ممن يمتلكون وظائف ممتازة، لكنهم ينفقون أغلب أوقات يقظتهم يشعرون بأنهم واقعون تحت سيطرة ما وبأنهم لا يلقون التقدير الكافي، لكن على أية حال لم يكن الهدف من رحلتي هذه هو العثور على الأسباب القابعة وراء إحساسنا بالسوء، بل العثور على طريقة لنشعر بصورة أفضل، وإيجاد مضاد اكتئاب حقيقي وطويل الأمد وصالح للأغلبية منا، بعيداً عن علب الدواء التي كان يتم عرضها علينا كخيار وحيد على القائمة بالنسبة لشخص مصاب بالقلق أو الاكتئاب، وبقيت أفكر بما أخبرتني به الدكتورة (كاكياتوري) بأن علينا البحث عن المشاكل الأعمق والمسببة لهذا الحزن.
وجدت في بالتيمور بدايات لحل مشكلة الوظائف الخالية من المعنى. (ميريديث ميتشل) كانت تستيقظ كل صباح بقلب يتسارع بسبب القلق إذ كانت تعمل في وظيفة تبغضها بشدة، فأقدمت على خطوة جريئة، فقد كان زوجها (جوش) وأصدقائهما يعملون في محل للدراجات، حيث كانوا يتلقون الأوامر ويشعرون بعدم الاستقرار، والكثير منهم كانوا مصابين بالاكتئاب؛ حينها قرروا إنشاء محل للدراجات خاص بهم ويتولون إدارته بطريقة مختلفة، فبدلاً من وجود شخص واحد كرئيس للعمال ليعطي الأوامر قاموا بإدارته بطريقة ديمقراطية تعاونية، مما يعني اتخاذ القرارات بصورة جماعية، وتشارك المهام الجيدة والسيئة، أي أن كل واحد فيهم هو الرئيس، فكان الأمر يبدو كقبيلة ديمقراطية نشطة، وحين قمت بزيارة مكان عملهم في بالتيمور قدم لي العاملون في المكان شرحاً عن دور جو العمل المختلف في التخلص بشكل كبير من اكتئابهم وقلقهم.
[spacer height=”20px”]
ولا يتعلق الأمر بنوعية المهام الفردية التي يؤدونها، فقد كانوا يعملون في إصلاح الدراجات في السابق، وهم الآن يقومون بإصلاح الدراجات أيضاً، لكنهم قاموا بتلبية احتياجاتهم النفسية التي كانت تُشعِرهم بالسوء في السابق، عن طريق الحصول على الاستقلال والتحكم بالعمل. جوش يرى أن الاكتئاب غالباً هو “ردود فعل منطقية على الوضع الراهن، وليس علة بيولوجية”. يخبرني أنه لا داع لإدارة أعمالنا بنفس الطريقة القديمة المُذِلّة، وأن بإمكاننا التقدم سوية كمجتمع يمتلك فيه الأفراد السيطرة على مكان عملهم.
مع كل سبب من أسباب الاكتئاب والقلق التسعة التي عرفتها كنت أتعلم حقائق مذهلة، ونقاشات كهذه أجبرتني على التفكير بطريقة مختلفة. البروفيسور (جون كاسيوبو) في جامعة شيكاغو علّمني أن الشعور المتواصل بالوحدة قد يكون مثيراً للإجهاد تماماً كالتعرض للكمة في الوجه من قبل شخص غريب، وهذا من شأنه زيادة احتمالات الإصابة بالاكتئاب بشكل كبير، والدكتور (فينسنت فيليتي) في سان دييغو أوضح لي أن التعرض لصدمة في فترة الطفولة تزيد احتمالات محاولات الانتحار عند البالغين بنسبة 3100%. أما البروفيسور (مايكل تشاندلر) في فانكوفر فقد شرح لي إن إحساس المجتمع بعدم السيطرة على القرارات الكبرى المؤثرة فيه أمر من شأنه رفع نسب الانتحار بشكل متسارع.
هذا الدليل الجديد يجبرنا على السعي للحصول على نوع مختلف من الحلول لأزمتنا، ويوجد شخص واحد ساعدني على فهم هذا الأمر، ففي الأيام الأولى من القرن الحادي والعشرين ذهب طبيب نفسي يدعى (ديريك سمرفيلد) من جنوب إفريقيا إلى كمبوديا، في الوقت الذي كانت فيه مضادات الاكتئاب تقدم لأول مرة هناك، ثم بدأ بشرح مفهوم المضادات للأطباء هناك، وبعد استماعهم إليه أخبروه أنهم ليسوا بحاجة لهذه العقاقير لأنهم يمتلكون مضادات خاصة بهم، فافترض عندها أنهم يقصدون أنواعاً من العلاجات العشبية، وعندما طلب منهم تفسير الأمر قاموا بسرد قصة عن مزارع في حقول الرز فقد ساقه اليسرى بسبب لغم أرضي، ورغم تزويده بطرف صناعي إلا إنه كان مثقلاً باليأس ويشعر بقلق مستمر مما يحمله المستقبل، وحين جلس معه الأطباء للحديث عن مشاكله وجدوا أنه رغم حصوله على طرف صناعي إلا إن عمله القديم في حقول الأرز كان يتركه متوتراً ويسبب له آلاماً جسدية مزمنة، الأمر الذي كان يزرع شعوراً بعدم الرغبة في العيش، لكن جاء الأطباء بفكرة أن يعمل في مزارع الألبان، فأحضروا له بقرة، وفي الأشهر والسنوات التي تلت ذلك تغيرت حياته، وتلاشى اكتئابه العميق. قالوا له: “كما ترى أيها الطبيب، كانت البقرة مضاداً للاكتئاب”.
[spacer height=”20px”]
بالنسبة لهم لم يكن العثور على مضاد للاكتئاب يعني العثور على مركب كيميائي لتغيير الدماغ، بل العثور على حل للمشكلة التي تُسبب الاكتئاب في المقام الأول، وبإمكاننا فعل الأمر نفسه. بعض هذه الحلول هي أشياء يمكننا القيام بها كأفراد في حياتنا الخاصة، والبعض الآخر يتطلب تغييرات كبيرة في المجتمع، تغييرات نقوم بها سوية كمواطنين، لكن هذه الأمور جميعاً تتطلب أن نقوم بتغيير مفهومنا عن ماهية الاكتئاب والقلق.
هذا أمر جذري لكنه ليس موقفاً منشقاً كما اكتشفت، ففي بيانها الرسمي بمناسبة يوم الصحة العالمي لعام 2017، استعرضت الامم المتحدة أفضل الأدلة وخلصت إلى إن “الرواية الطبية السائدة للاكتئاب” تستند إلى “نتائج بحثية منحازة وانتقائية” وهذه النتائج “يجب التخلي عنها”، كما علينا نقل اهتمامنا من “التركيز على (اختلال التوازن الكيميائي)” إلى التركيز أكثر على “اختلال توازن السلطات”.
[spacer height=”20px”]
بعد أن تعلمت كل هذا وما يعنيه بالنسبة لنا، تمنيت أن أعود بالزمن إلى الوراء للتحدث إلى ذلك المراهق في اليوم الذي سمع فيه قصة عن اكتئابه، والتي وضعته على الطريق الخاطئ لسنوات عديدة؛ وددت أن أخبره: “هذا الألم الذي تشعر به ليس مرضاً وليس جنوناً، بل إشارة تدل على عدم تلبية احتياجاتك النفسية، فهو شكل من أشكال الحزن، حزن على نفسك وعلى انحراف طريق الثقافة التي تعاصرها. أعلم كم الأمر مؤلم، لكن ينبغي عليك الاستماع لهذه الإشارة، ينبغي علينا جميعاً أن نستمع لهذه الإشارة الصادرة من أناس حولنا، تخبرك بضرورة أن تشعر بالتواصل بشكل عميق، وبأنك لم تبلغ ذلك بعد، لكنك ستفعل في يومٍ ما”.
ان كنت تشعر بالاكتئاب والقلق فهذا ليس دليلا على إنك آلة أصابها عطل ما، بل هو دليل على إنك كائن بشري ذو احتياجات ناقصة. طريق الخروج الحقيقي والوحيد بالنسبة لنا من وباء اليأس يكون في أن نبدأ جميعاً في تلبية هذه الاحتياجات، والشعور باتصال عميق مع الأمور المهمة بالفعل في الحياة.
*نص معدل من كتاب Lost Connections: Uncovering the Real Causes of Depression – and the Unexpected Solutions للكاتب يوهان هاري
المصدر هنا