جون ديوي من الرواد البارزين في مدرسة الفكر الامريكية المعروفة بالبراغماتية، والبراغماتية رأي يرفض الازدواج بين الابستملوجيا “نظرية المعرفة” والميتافيزيقا في الفلسفة الحديثة، بل يعتبر أن الفلسفة يجب أن تسير في صالح النهج الطبيعي والنظر اليها “كمعرفة ناجمة عن التكيّف النشط للكائن البشري مع بيئته”. على وفق هذا الرأي، يجب أن لا يُفهم أن التساؤل ومراقبة العالم هو نتيجة “عقل سلبي” وعدم الاستفادة من كل الافكار التي قد تتوافق مع الواقع الحقيقي، بل بوصفها عملية البدء بالتدقيق بالعوائق امام العمل الانساني الناجح، ان عملية التساؤل هي عملية نشطة تدعو للتلاعب ببيئة اختبار الفرضيات، والاهتمام باعادة تكيف الانسان مع بيئته والتي تسمح للعمل الانساني بالاستمرار والديمومة.
باتخاذ هذا الرأي كنقطة انطلاق له، وضع ديوي جسماً متكاملاً من العمل تشمل تقريباً جميع المجالات الرئيسية ذات الاهتمام الفلسفي في عصره. كما كتب على نطاق واسع في القضايا الاجتماعية بمطبوعات شعبية بإسم الجمهورية الجديدة وبالتالي إكتسب سمعة كبيرة باعتباره من رواد المعلقين في الشأن الاجتماعي في وقته.
حياته وأعماله:
ولد جون ديوي في 20 اكتوبر 1859 وهو الثالث بين أربعة أبناء السيد أرشيبالد سبراغ ديوي والسيدة لوسينا ارتميسيا ريتش من برلنغتون، من فيرمونت. الأخ البكر لجون توفي في المهد اما الاخوة الباقي فقد بقوا على قيد الحياة وتعلموا في المدارس العامة ومن ثم جامعة فيرمونت في برلنغتون بينهم جون. عندما كان في جامعة فيرمونت تعرّف ديوي على نظرية دارون للنشوء والارتقاء من خلال دروس بيركنز في علم وظائف الاعضاء النباتية، ومن خلال التطوري الشهير هكسلي ونصوصه.
كان لنظرية النشوء والارتقاء تأثير كبير على فكر وحياة ديوي فقد أشار ديوي الى عقم النماذج الثابتة في الطبيعة وأهمية التركيز على التفاعل بين الكائن البشري وبيئته عند النظر في مسائل علم النفس ونظرية المعرفة.
إقتصر التعليم الرسمي في جامعة فيرمونت بجزئه الاكبر على المدرسة الواقعية الاسكتلندية وهي المدرسة الفكرية التي سرعان ما رفضها ديوي ولكن ظل على اتصال وثيق قبل وبعد تخرجه مع إستاذه في الفلسفة هاب توري وهو الباحث في علم المصالح والتعاطف وفلسفته ذات الانتشار الواسع، والذي قال عنه ديوي بان افكار توري كان لها دور حاسم لتطور رؤاه الفلسفية.
بعد تخرجه عام 1879 درّس ديوي في المدارس الثانوية لمدة سنتين، والتي توقف فيها عن فكرة متابعة مهنة الفلسفة. لكن طموحه بدأ مع ارساله مقال فلسفي للفيلسوف هاريس رئيس تحرير مجلة المضاربات الفلسفية وهي مجلة في سانت لويس للفلاسفة الهيغليين-أي المتأثرين بفكر هيغل الفيلسوف الالماني.
أعطى قبول هاريس لمقال ديوي التاكيد بان ديوي سيكون فيلسوفا، وقد شجعه ذلك على السفر الى بالتيمور للالتحاق كطالب دراسات عليا في جامعة جونز هوبكنز .
في جامعة جونز هوبكنز تلقى ديوي توجيها من أثنين من المثقفين، قويين وجذابين سيكون لهم تأثير دائم عليه هما: جورج سيلفستر موريس، الفيلسوف المتأثر بهيغل. ومن خلاله تعرض ديوي للنموذج العضوي من خصائص الفكر المثالي الالماني. اما الثاني فهو ستانلي هول وهو واحد من ابرز علماء النفس التجريبي في امريكا في ذلك الوقت. هذا الرجل جعل من ديوي يقدّر القوة المنهجية العلمية التي طبقها ستانلي على العلوم الانسانية. التقاء وجهات النظر المختلفة في مكان واحد والتي تعرض لها ديوي جعله يبلور المغزى العام لافكاره طوال مسيرته الفلسفية.
بعد حصوله على الدكتوراه عام 1884 ذهب ديوي للتدريس في جامعة ميشيغان والذي كان من المقرر أن يظل فيه بعقد لمدة عشر سنوات باستثناء سنة واحدة قضاها في جامعة مينيسوتا في عام 1888. كتب ديوي كتابيه الاولين في ميشيغان: علم النفس عام 1887، وكتاب لايبنت، مقالات جديدة بخصوص الفهم البشري 1888.
وقد ظهر واضحاً التاثير المزدوج لتأثر ديوي المبكر للمثالية الالمانية الهيغلية من جهة، ومحاولته التوليف بين هذه المثالية والعلم التجريبي. في ميتشيغان ايضاً، التقى ديوي بأحد زملاءه الفيلسوف جيمس هايدن تافتس والذي شاركه لاحقاً بتاليف كتاب الاخلاق عام 1908.
في عام 1894 ذهب ديوي برفقة تافتس الى جامعة تاسست مؤخراً في شيكاغو، وخلال تلك السنوات التي قضاها في شيكاغو بدأت تنزاح عنه تلك المثالية التي إتخذها بوقت مبكر من حياته لتفسح الطريق امام نظرية تجريبية في المعرفة وبدأ بالانسجام مع المدرسة الامريكية في الفلسفة وبدأ بتطويرها والتي تسمى بالبراغماتية.
هذا التغيّر بالرأي إتضح من خلال سلسلة من أربع مقالات بعنوان واحد هو “الفكر الموضوعي” والتي نُشرت الى جانب عدد من المقالات لزملاء ديوي وطلابه في شيكاغو تحت عنوان”دراسات في النظرية المنطقية”وذلك عام 1903.
كما قام ديوي بتاسيس وادارة مدرسة عُرفت بالمدرسة المختبرية في شيكاغو، حيث منحته هذه المدرسة فرصة لتطبيق أفكاره مباشرة لتطبيق أفكاره التربوية. هذه التجربة في إدارة المدرسة قدمت له الفرصة لوضع أول عمل رئيسي لديه في موضوعة التعليم باسم”المدرسة والمجتمع” عام 1899.
لكن الخلافات مع ادارة المدرسة المختبرية ادت الى استقالة ديوي من منصبه في عام 1904.
بعد استقالته سارع بالانضمام الى جامعة كولومبيا بعد أن صارت له سمعة كبيرة في الفلسفة. وقد قضى بقية حياته المهنية في جامعة كولومبيا. الان وفي نيويورك، تقع جامعته في وسط الجامعات الشمالية الشرقية التي تضم العديد من ألمع العقول في الفلسفة الامريكية. إستمر ديوي باتصالات وثيقة مع العديد من الفلاسفة والعمل معهم على اثراء نقاط الاختلاف بينهم وخلق جو محفَّز فكرياً وهذا أدى الى اثراء وتعزيز افكاره الخاصة.
خلال العقد الاول له في كولومبيا كتب ديوي عدداً كبيراً من المقالات في نظرية المعرفة والميتافيزيقيا، ثم تم جمع الكثير من تلك المقالات في كتابين مهمين: الاول هو كتاب تأثير دارون على الفلسفة ومقالات اخرى في الفكر المعاصر الصادر عام 1910 والاخر هو مقالات في المنطق التجريبي الصادر عام 1916.
واصل ديوي خلال هذه السنوات اهتمامه بالنظرية التربوية، وتلقى اعماله التربوية اهتماماً من كلية المعلمين في جامعة كولومبيا. وأدى ذلك الى نشر كتابه “كيف نفكر” الصادر عام 1910 والطبعة المنقحة عام 1933″ وهو تطبيق لنظريته في المعرفة والتعليم، والكتاب الاخر “الديمقراطية والتربية والتعليم” الصادر عام 1916 والذي ربما يكون أهم اعماله في هذا المجال.
خلال السنوات التي قضاها في جامعة كولومبيا نمت سمعة ديوي الفلسفية باعتباره الفيلسوف الرائد والمنظّر التعليمي بالاضافة الى ذلك عَلِق في ذهن الجمهور باعتباره ابرز المعلقين حول القضايا المعاصرة بالنظر الى اسهاماته المتكررة في المجلات الشعبية مثل الجمهورية الجديدة ومجلة الامة، فضلا عن اتخراطه في الامور السياسية والامور الجدلية مثل منح المراة حق التصويت والنقابات التعليمية .
وكان من نتائج شهرته تلك تلقّيه الدعوات لالقاء المحاضرات في الاماكن الاكاديمية والشعبية، وكانت له الكثير من الكتابات المهمة خلال تلك السنوات نتيجة لتلك المحاضرات التي كان يلقيها ومن تلك الكتب، اعادة الاعمار في الفلسفة 1920، الطبيعة البشرية وقواعد السلوك 1922، الخبرة والطبيعة 1925، والجمهور العام ومشاكله 1927، والسعي الى اليقين 1929.
إن تقاعد ديوي من التدريس عام 1930 لم يحد من نشاطه كشخصية عامة او كفيلسوف منتج. ففي مذكراته الخاصة نجد أنه كان مشاركاً في لجنة التحقيق في التهم الموجهة لليون تروتسكي في محاكمة موسكو والتي كان وراءها المكائد السياسية لستالين عام 1930، بالاضافة الى دفاعه عن زميله الفيلسوف برتراند راسل بعد محاولة المحافظين عزله من كرسيه في كلية مدينة نيويورك عام 1940.
التركيز الرئيسي لديوي خلال عقد الثلاثينات كان اعداد الصيغة النهائية لنظريته المنطقية حيث نشر كتاب: المنطق: مظرية تقصي الحقائق في عام 1938 بالاضافة الى اعمال مهمة اخرى خلال سنوات تقاعده ككتاب الفن كتجربة هام 1934 وكتابه الايمان الشائع عام 1934 والحرية والثقافة 1939 ونظرية التقييم 1939 والمعرفة والتعلم عام 1949 والاخير كتبه تاليفاً كان بالاشتراك مع أرثر ف. بنتلي. واصل ديوي العمل الفلسفي بقوة حتى وفاته في 2 حزيران عام 1952 بعمر يناهز 92 عاماً.
المصدر: هنا