الرياضيات هي لغة العلم التي مكّنت البشرية من إحداث تطورات غير اعتيادية في مجالات التكنولوجيا. حيث ليس هناك مجال للشك بأن المنطق والنظام الذي يشكّل لغة الرياضيات قد أسدى الينا خدمة عظيمة في وصف طبيعة وبنية ما نراه في الطبيعة حولنا. ان النجاحات التي تم انجازها ابتداء من رياضيات الفَلك وصولاً الى الأجهزة الألكترونية بحجم ميكروسكوبي، هي نجاحات مبهرة. حيث يقول آينشتاين ” كيف يمكن للرياضيات، بعد كل نتاجات الفكر الأنساني غير المعتمد على الخبرة، أن تكون بذلك الشكل المبهر الذي يتناسب مع كل الأشياء في الواقع؟”
لايوجد توافق في الآراء بين العلماء والرياضياتيين بشأن هذه المسألة الرائعة. لغز آينشتاين هذا قد تلقّى ردود متنوعة منها:
١- الرياضيات شيء فطري: ان السبب الذي يجعل الرياضيات لغة العلم الطبيعية، هو ان الكون يرتكز على نفس أنظمة الرياضيات. أن هياكل الرياضيات هي جواهر الطبيعة. وعلاوة على ذلك، اذا حدث وتلاشى الكون غداً، فأن الحقائق الرياضية الأبدية سوف تبقى موجودة، وهذا الأمر يساعدنا في فهم طريقة عمل الرياضيات، وهذا بدوره يساعدنا أيضاً في تشكيل نماذج رياضية تعطينا القوة التنبؤية الكافية لفهم الظواهر الفيزيائية التي نسعى للسيطرة عليها. هذا الموقف يميل للرومانسية وهذا ما أدعوه بالموقف الأفلاطوني.
٢- الرياضيات مُنجَز أنساني: أن السبب الوحيد الذي يجعل من الرياضيات لغة رائعة ومناسبة جداً في ان تصف العالم المادي هو اننا اخترعناها لكي تقوم بذلك. انها نتاج العقل البشري الذي أخذ من الرياضيات طريقاً يتناسب مع اغراضه. أذا تلاشى الكون، فلن يكون هناك رياضيات بنفس الطريقة التي تُبنى عليها كرة القدم، التنس، الشطرنج أو أي مجموعة أخرى لها قواعد رياضية متفق عليها. الرياضيات ليست اكتشاف، بل هي اختراع. وهذا موقف غير أفلاطوني.
٣- الرياضيات ليست ناجحة جداً: أولئك الذين يتعجبون من الكم الهائل للتطبيقات الرياضية الموجودة، ربما تم أغوائهم بفعل المبالغة الزائدة في نجاحاتهم. أن المعادلات الرياضية التحليلية هي الوحيدة التي تقترب من وصف العالم الحقيقي، ثم بعد ذلك تصف أفرع محدودة جداً للظواهر من حولنا. نحن نميل الى التركيز على المشاكل الفيزيائية التي من خلالها نجد طريقاً نستطيع تطبيق الرياضيات فيه. لذا فأن التركيز المفرط على هذه النجاحات هو أحد أشكال مايسمى “انتقاء الكرز” . وهذا موقف واقعي.
٤- حافظ على هدوئك واستمر: لا يهم ماتنتجه الرياضيات من نتائج، اترك هذه الأمور للفلاسفة ينشغلون بها. وهذا مايسمى موقف “اصمت وواصل الحساب”
ان النقاش حول الطبيعة الأساسية للرياضيات هو ليس بالأمر الجديد، وقد بدأت منذ زمن الفيثاغوريين.
هل يمكننا اذن ان نسلط الضوء على المواقف الأربعة أعلاه؟
أن التطور الحديث الذي شهده القرن الماضي كان في اكتشاف الفركتلات. وهي عبارة عن انماط رياضية معقدة، كمجموعة مارلبورت، والتي يمكن التوصّل اليها من خلال مجموعة معادلات بسيطة ومتكررة. ان علماء الرياضيات الافلاطونيين يشيرون الى ان الفركتلات هي انماط شائعة في الطبيعة، وأن العلماء اكتشفوها ولم يخترعوها. لكن الرأي المضاد يقول ان لكل مجموعة من القواعد، هناك خصائص تم أنشاؤها. قواعد الشطرنج، على سبيل المثال، هي من الواضح انها اختراع انساني، لكنها تعطينا عدداً من النتائج الأنيقة والمدهشة في بعض الأحيان. هناك عدد غير محدد من المعادلات المتكررة التي يستطيع المرء أنشاؤها، لكن أذا حدث وان ركّزنا على مجموعة فرعية صغيرة، تنتج انماطاً جميلة من الفركتلات، فأننا بذلك نقوم بأغواء انفسنا.
لنأخذ مثالاً اخر، ونقوم بجلب عدد لاحصر له من القرود ونجعلهم ينقرون على لوحة مفاتيح كاتبة. سوف يبدو أمراً خارقاً اذا حدث وكتب أحد هذه القرود شطراً من أبيات قصائد السونيت لشكسبير. لكن عندما نرى السياق بأكمله، سوف ندرك أن جميع القرود لم تكتب سوى رطانات لامعنى لها. وعلى نحو مشابه، فمن السهل لنا ان نغوي انفسنا بالأعتقاد بأن الرياضيات هي أعجوبة فطرية أذا أردنا ان نركّز بشكل مفرط على نجاحاتها من دون النظر الى الصورة بأكملها.
الرؤية غير الأفلاطونية تعتقد بـ:
أولاً، كل النماذج الرياضية تقريبية من الواقع.
ثانياً، نماذجنا تفشل وتصبح عديمة الفائدة خلال عملية مراجعتها، لذا فأن الحاجة استدعت بأن نخترع رياضيات جديدة. التعبيرات الرياضية التحليلية هي نتاج العقل البشري. وبسبب قدراتنا العقلية المحدودة نحن نسعى الى أدماج التوصيفات الرياضية الأنيقة من أجل تكوين تنبؤات. ان هذه التنبؤات غير مضمون بصحتها والتحقق التجريبي منها مطلوب دائماً. ما شهدناه في العقود القليلة المنصرمة، كما في تقلّص حجم الترانزستور، هو ان ادماج التعبيرات الرياضية مع الترانزستورات فائقة الصغر هو أمر غير ممكن. باستطاعتنا اللجوء الى المعادلات المرهقة، لكن هذا ليس الهدف من الرياضيات. لذا نحن لجئنا الى المحاكاة الحاسوبية باستخدام النماذج التجريبية. وهذا ماتستند عليه الهندسة في هذه الأيام.
ان الموقف الواقعي هو ببساطة امتداد للموقف غير الأفلاطوني، مؤكداً ان أدماج التعبيرات الرياضية التحليلة مع العالم المادي ليس ناجحاً في كل الأحوال كما نعتقد. هذا الموقف يُظهِر باستمرار أن جميع النماذج الرياضية للعالم المادي تتحطم في مرحلة ما. علاوة على ذلك، فأن كل انواع المشاكل التي تتناولها التعبيرات الرياضية الأنيقة تتقلص بصورة فرعية من كل القضايا العلمية الناشئة.
لكن هل الأنشغال بمثل هذا القضايا هو شيء له أهمية؟
أن موقف “أصمت وواصل الحساب” يخبرنا بأن لاننشغل بمثل هذه القضايا طالما ان جميع عملياتنا الحسابية تُخرج نتائج متشابهة، بغض النظر عمّا تعتقد به شخصياً: لذا حافظ على هدوئك واستمر.
أنا من أولئك الذين يعتقدون ان هذا السؤال مهم. حكايتي الشخصية بدأت من اعتيادي ان أكون أفلاطونياً، كنت أعتقد بأن جميع الصيغ الرياضية كانت مطمورة في أنتظار من يكتشفها. هذا يعني انني عانيت فكرياً من أجل اتخاذ موقفي السليم. أثناء أيامي الجامعية، مررت بلحضات من التنوير الفكري التي جعلتني اتحول الى الموقف غير الأفلاطوني. شعرت وكأن عبئاً ثقيلاً قد رفع من على أكتافي. لكن هذا لم يؤثر أبداً على مسيرتي الخاصة في الحساب. أنا اعتقد بأن الموقف غير الأفلاطوني يعطيني حرية أكبر في الفكر. فأذا قبلنا بأن الرياضيات تم اختراعها وليست مكتشفة، فباستطاعتنا ان نكون أكثر جرأة، نطرح أسئلة أعمق، وأن يكون لدينا دوافع لأنجاز المزيد من التغييرات.
هل تذكر كيف أصيب الفيثاغوريين من الأرقام غير النسبية بصدمة محيرة؟، أو الوقت الذي استغرقته البشرية في أدخال الصفر في عمليات الحساب؟ تذكّر القرون التي استمر فيها النقاش حول أذا ماكانت الأعداد السالبة صالحة للأستخدام أم لا؟ تخيل كمّ التقدم العلمي الذي سيحدث في العلوم والهندسة فيما لو كان هذا النقاش قد تم حلّه من قرون مبكّرة؟ أنها أحدى ويلات التفكير الأفلاطوني الذي أعاق من تقدمنا. أنا أزعم بأن التفكير غير الأفلاطوني يحررنا من الجمود الثقافي ويسرّع من تقدمنا نحو الأمام.
المصدر: هنا