في إنجازٍ رائع، تمكن مجموعةٌ باحثين من تتبع سلسلةٍ من الحمض النووي لعددٍ من المتحجرات في إسبانيا والتي يقدرُعمرها بـ300,000 إلى 400,000 سنة واستطاعوا ايجاد سلفٍ (أو قريب شديد الصلة) للنياندرتال. يُعدُ هذا الحمض النووي أقدم حمضٍ نوويٍ لفردٍ من عائلة البشر تمﱠ تتبع سلسلته، ومن المُمكن أنْ يدفع تأريخ نشوء أسلاف النياندرتال والبشر الحديث إلى الخلف، تأتي هذه المعلوماتُ وفقاً للتقديم الذي عُرض يوم أمس في المؤتمر الخامس للمجتمع الأوربي المعني بدراسة تطور الإنسان.
في منتصف تسعينات القرن الماضي، اكتشف باحثون آلافاً من العظام والأسنان والتي تعودُ لـ28 فرداً في كهفٍ يُدعى بـ”سيما دو لوس هيوسز” Sima de los Huesos والذي يعني “حفرة العظام”، وهو كهفٌ يقعُ في جبال اتابويركا في إسبانيا، وقد لاحظ الباحثون بأنﱠ هذه المتحجرات التي وجدوها تُشبه النياندرتال البدائي إلى حدٍ كبير. يعتقد بأنﱠ سكان كهف “سيما” قد انبثقوا في أوربا. يمتلك هؤلاء السُكان أسناناً، فكوكاً، وفتحات أنفٍ كبيرة مشابهةٍ لتلك التي لدى النياندرتال. كنتيجةٍ لهذا، قام فريقٌ يرأسهُ عالم الحفريات خوان لويس ارسواكا بتصنيف هذه المتحجرات على أنها أفرادٌ من نوع “هومو هيدلبرغ Homo heidelbergensis”،وهو نوعٌ عاش قبل حوالي 250,000 إلى 600,000 سنة في أوربا، أفريقيا، وآسيا. إعتقد العديدُ من الباحثين بأن نوع “هومو هيدلبرغ” قد أدى إلى نشوء النياندرتال وربما إلى نشوء نوعنا الذي ننتمي إليه وهو الإنسان العاقل “هومو سابينس” قبل 400,000 سنةٍ تقريباً.
لكنْ في سنة 2013، أصبحت هوية متحجرات كهف “سيما” معقدةً فجأةً عندما أظهرت دراسةٌ أُجريت على أحد العظام للحمض النووي للمايتوكوندريا الموروث من الأم بأنهُ لا يشابه ذلك الذي يعود للنياندرتال. بدلاً من ذلك، فقد كان مشابهةً بشكل كبيرٍ للحمض النووي للمايتوكوندريا العائد لنوع منقرض من الإنسان يسمى بـ”دينيسوفان”، والذي تم إكتشافه عند تتبع سلسلة الحمض النووي الخاصة به والتي حصلوا عليها من عظمة إصبعٍ وجدوها في كهفٍ في مدينة دينيسوفا في صربيا.
هذه النتائج كانت محيرةً جداً، مما دعت الباحثين إلى التخمين بأمكانية كون المُتحجرات العائدة لسكان كهف “سيما” قد ورثت مع الدينيسوفيين الأوائل أو أنﱠ الحمض النووي للمايتوكوندريا الخاص بالإنسان الدينيسوفي كان علامةً لذريةٍ أقدم من أحد أنواع البشر، كنوع الإنسان المنتصب القامة “هومو ايريكتاس Homo erectus”. في هذه الأثناء، أعلن الباحثون في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في ألمانيا والذين امتلكوا الحمض النووي للمايتوكوندريا لإنسان كهف “سيما” بأنهم سيقومون بتتبع سلسلة الحمض النووي للنواة العائدة لهذه المتحجرات من أجل حل هذا اللغز المحير.
بعد سنتين من الجُهد المكثف، إستطاع عالمُ الحفريات الوراثية ماثياس ماير من معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري من تتبع سلسلة الحمض النووي للنواة تعودُ لعددٍ من المتحجرات من بينها سن وعظم ساق مأخوذة من الكهف، وكانت كافيةً لحل هذا اللغز. كانت هذه المهمةُ صعبةً للغاية، بسبب تكسر هذا الحمض النووي القديم إلى قطعٍ صغيرة، وكلﱡ قطعةٍ مكونةٍ من 25 إلى 40 نيوكليوتايد (وتعرف أيضاً بأزواج القواعد النيتروجينة وهي الحجر الأساس المكون للحمض النووي).
على الرغم من أنه هو وزملائه لم يقوموا بتتبع جميع سلاسل الجينومات للمتحجرات، إلا أن ماير أفاد بأنهم حصلوا على مليون إلى مليوني زوجٍ من القواعد النيتروجينية والتي تعودُ لذلك الحمض النووي القديم.
قام هؤلاء الباحثون بتفحص هذا الحمض النووي بحثاً عن علاماتٍ مميزةٍ لا توجدُ إلا في النياندرتال أو الدينيسوفيان أو الإنسان الحديث، وقد وجدوا بأنﱡ هاتين المتحجرتين المأخوذتين من كهف “سيما” تتشاركان بكثيرٍ من الحلائل (نيوكليوتيدات مختلفة تقع في نفس الموضع في الجينوم) مع النياندرتال أكثر من الدينيسوفيان أو الإنسان الحديث. “في الواقع، إن نماذج كهف سيما دو لوس هيوسز تعود للنياندرتال البدائي أو مرتبطةٌ بشكلٍ ما مع النياندرتال البدائي،”. مقترحاً بأن تأريخ إنفصال الدينيسوفيان عن النياندرتال يجب أن يرجع إلى الوراء.
إنﱠ هذه الصلة الوثيقة للمتحجرات مع النياندرتال، ولكن ليس مع الدينيسوفيان أو الإنسان الحديث، تُشير إلى أنﱠ الذرية التي تقود إلى نشوء النياندرتال كانت منفصلةً عن بقية أنواع الإنسان القديم في وقتٍ سابقٍ لما كان يعتقده الباحثون.
ذلك يعني بأنﱠ أسلاف الإنسان الحديث قد إنفصلت في وقتٍ سابق لما كان يُعتقد من قبل عن بقية السكان الذين نشأ منهم النياندرتال والدينيسوفيان، واللذان كانا على قرابةٍ قويةٍ من بعضهما أقوى من قرابتهما مع الإنسان الحديث.(على الرغم من أن هذه المجاميع الثلاث تزاوجت في ما بينها بمستويات قليلة بعد إنفصال مساراتهم التطورية، ومن الممكن أن يكون هذا التزاوج هو مصدر ظهور الحمض النووي للمايتوكوندريا للدينيسوفان في أول متحجرة مأخوذةٍ من كهف” سيما” والتي تم تتبع سلسلة حمضها النووي).
في الحقيقة، يُشير ماير في كلامه إلى أنﱠ أسلاف الإنسان العاقل الأول “هومو سابينس” من المُمكن أنْ تكون قد إنفصلت عن المسار التطوري الذي يقود إلى النياندرتال والدينيسوفان منذ ما يقارب 550,000 إلى 765,000 سنة مضت، على الرغم من أنﱠ هذه النتائج تعتمدُ على معدلات طفراتٍ بشرية مختلفة والتي لم تنشر حتى الآن.
ذلك سيعني بأنﱠ أسلاف الإنسان كانت تتجولُ على هذا الكوكب في مسارٍ تطوريٍ منعزل عن بقية أنواع الإنسان القديم منذ أكثر من 100,000 إلى 400,000 سنة مما كان يتوقعه الباحثون. “لا أعتقدُ بأن هذه كلها أخبار جيدة: فمن وجهة نظري، إنﱠ هذا سيدفع تأريخ نشوء الإنسان العاقل الأول بعيداً عن النياندرتال والدينيسوفان.” هذا ما قاله عالم الحفريات كريس سترنكر والذي يعمل في متحف التراث الطبيعي في لندن. إنﱠ إحتمالية كون إنفصال البشر عن بقية الأنواع في وقتٍ مبكر سيُعيد ترتيب شجرة العائلة، مما يعدُ بنشوب جدالٍ جديد حول مكان وزمان إنتماء هذه الفروع.
المصدر: هنا