كتبته لموقع (براين بيكنيغز): ماريا بوبوفا
بتاريخ: تشرين الأول 2014
ترجمة: أحمد نُعيم
تصميم: حسام زيدان
فريدريك نيتشه فيلسوفٌ وشاعرٌ ومؤلفٌ وكاتبٌ ألمانيٌ من مواليد (15 تشرين الأول 1844 – 25 آب 1900)؛ وهو أكثر العقول البشرية تأثيرًا واستشهادًا بحديثه؛ وقد كان على يقين بأن ذاك هو مصيره. نعت نيتشه عامّة الفلاسفة بأنهم “حفنة من الأغبياء”، وعوّل على ذلك بقوله: كُتب عليّ أن أكون أول إنسان موّقر. وتنتابي رهبة شديدة أن أصير شخصيةً مقدّسةً في يوم من الأيام. وفي رسالةٍ له، تطرق إلى احتمالية استمتاع الأجيال القادمة بأعماله الأدبية: يبدو أن حمل كتاب ليّ هو من العلامات الفارقة التي قد تميز أحدهم.
وبعد قرنٍ ونصف من الزمان، ثبُت صحة كبرياء نيتشه – لسببٍ مفاجئ كُشف حديثًا وهو: تأكيده على أن أعظم مكافأة تمنحها لنا الحياة هي تقبّل الشدائد. وقبل ما يربو على قرنٍ من الزمان من احتفاءنا بـ”هبة الفشل” وتقديسنا للفشل بوصفه سبيلاً إلى التحلي بالشجاعة، مجّد نيتشه هذه القيم بخيلاءٍ ووضوحٍ.
في قول مأثور له كُتب عام 1887، ونُشر في مفكراته بعد وفاته تحت عنوان [إرادة القوة]؛ كتب نيتشه تحت عنوان “أنواع حوارييّ”:
أتمنى لمن يهمونني تجربة المعاناة والأسى والمرض وسوء المعاملة والإذلال – وأن يعتادوا على احتقار الذات، وحُرقة وعذاب عدم الثقة بالنفس وبؤس وشقاوة المهزوم: لا أشفقُ عليهم، لأنني أتمنى لهم أن يعانوا من شيء يظهر معدنهم: هل هم يستحقون أي شيء أم لا؛ ويظهر قدرتهم على التحمل.
وبعد نصف قرن من الزمان، رددت (ويلا كاثر) هذه الفكرة في رسالةٍ مهمومةٍ إلى أخيها قائلةً: تُختبر أخلاق المرء بقدر النقمة التي يتحملها بعد كفّهِ عن الاهتمام.
وكتب (آلان دي بوتون) – الذي يتناول هذه الموضوعات بوصفها مهامًا نفسيةً للفن وما يفعله الأدب للروح – بمزيج من الفطنة والحكمة في كتابه الرائع [عزاءات الفلسفة]:
أدرك نيتشه وحده أن الشدائد باختلاف أشكالها كانت تلقى ترحاب من يبغون الإنجاز.
بل واعتقد نيتشه أيضًا أن المشقة والفرح يعملان ضمن علاقةٍ متوازية – فتقليص أحدهما يقلّص الآخر – أو كما قالت الكاتبة (أناييز نين): من رحم الأهوال العظيمة والوحدة الشديدة والمثبطات القوية والتقلبات العظيمة يوُلد الفن العظيم، ودائمًا ما يحقق توازنًا بينهم. في كتابه بعنوان [العلم المرح]، الذي حوى أطروحته حول الشعر وصرح فيه بقوله الشهير إنّ “الرب مات”، كتب نيتشه: ماذا لو كانت اللذة والضجر مرتبطين معًا بحيث إن من يريد أكبر قدر من أحدهما، لا بد أن يحصل على أكبر قدر من الآخر – وأن من يريد أن يبتهج أيما ابتهاج، عليه أن يستعد أيضًا لموجة عارمة من الكآبة؟
[…]
لك الحرية: إما أن تحظى بأقل قدرٍ ممكن من الضجر وعدم الألم.. أو أن تحظى بأكبر قدرٍ ممكن من الضجر كمقابلٍ للمتع والبهجة الخفية التي نادرًا ما تستُمتع بها؟ إن اخترت الأولى وأردت تقليص الألم البشري؛ عليك أيضًا تقليص الفرح.
كان نيتشه مقتنعًا بأن الحياة البشرية في أغلبها تعكس هذه العلاقة المتوازية:
“طالع حياة الأشخاص والشعوب الأكثر إنتاجًا، وسل نفسك هل يمكن أن تستغني شجرة يُفترض أن تنمو إلى ارتفاع شامخ عن العواصف والطقس السيء؛ وهل سوء الحظ والمقاومة الخارجية والكراهية والغيرة والعناد وعدم الثقة والصعوبة والجشع والعنف لا ينتمون إلى الظروف المواتية التي دونها يكون أي نموٍ عظيمٍ ممكنًا بصعوبة.”
يُجمل (دي بوتون) قناعات نيتشه وإرثها الدائم بقوله:
لم تبدُ المشاريع البشرية الأكثر إنجازًا بمعزلٍ عن العذاب، فمصادر أفراحنا قريبة من مصادر آلامنا…
لماذا؟ لأنه لا يوجد شخصٌ قادرٌ على إنتاج عملٍ فني عظيمٍ دون خبرةٍ، ولا بلوغ منزلة دنيوية فورًا، ولا أن يصير مُحبًا عظيمًا من أول محاولة؛ وفي الفترة الفاصلة بين الفشل الأولي والنجاح اللاحق، وفي الهوة بين من نريد أن نكون في يومٍ ما ومن نحن عليه حاليًا، يأتي الألم والقلق والحسد والإهانة. ونعاني لأننا لا نستطيع تملك عناصر الإنجاز بشكلٍ عفويٍ.
كان نيتشه يطمح في تصحيح الاعتقاد بأن الإنجاز لا بد أن يأتي بسهولة أو لا يأتي مطلقًا -وهو اعتقاد هدّام- لأنه يؤدي بالمرء إلى الانسحاب مسبقًا من التحديات التي يمكن تجاوزها لو تأهبنا للظروف الموحشة اللازمة لتحقيق كل شيءٍ نفيسٍ وقيّم تقريبًا.
(أو كما عبّر المؤلف الأمريكي (فرنسيس سكوت فيتزجيرالد) في قوله: كل ما هو جيدٌ صعب).
توّصل نيتشه إلى هذه الأفكار بطريقةٍ غير مباشرةٍ. حيث تأثر في شبابه تأثرًا شديدًا بالفيلسوف الألماني شوبنهاور. في سن الحادية والعشرين، صادف رائعة شوبنهاور [العالم إرادة وفكرة]، وحكى فيما بعد عن المنعطف المؤثر في حياته قائلاً:
“حملت الكتاب بيدي مستغربًا وقلبت صفحاته. لا أعلم أي شيطانٍ كان يهمس لي: خذ هذا الكتاب للمنزل. على أي حالٍ، أخذته مخالفًا عادتي بعدم التسرع قط في شراء كتاب. وفي المنزل، جلست بركن أريكةٍ حاملاً كنزي الجديد، وبدأت أطالع هذا الكتاب العبقري المؤثر. كان كل سطرٍ يحمل في ثناياه صرخة التخلي والإنكار والاستسلام. كنت انظر في مرآة عكست العالم والحياة وعقلي بروعةٍ يشوبها البشاعة.”
أليس هذا ما تفعله أعظم الكتب بنا، لمَ نقرأ ونكتب أساسًا؟
لكن نيتشه اختلف في نهاية الأمر مع انهزامية شوبنهاور، وابتكر تدريجيًا أفكاره حول قيمة الشدة. وفي رسالةٍ عام 1876 إلى (كوزيما فاغنر) – زوج ريتشارد فاغنر الثانية، ملحن شهير وصديق لنيتشه – اعترف نيتشه بعد أكثر من عقدٍ من مصادفته لأفكار شوبنهاور:
هل تندهشين إن اعترفت بشيء تكوّن لدي تدريجيًا، ودخل إلى وعيي بغتةً: إنه اختلافي مع تعاليم شوبنهاور؟ أختلفُ معه في جميع المسائل والافتراضات العامة تقريبًا.
ونقطة التحول هي كيفية توّصل نيتشه إلى الاقتناع بأن الشدّة هي نقطة الانطلاق لتحقيق السعادة والإنجاز. ويصف (دي بوتون) ذلك ببراعة:
لأن الإنجاز وهم، فعلى الحكيم تكريس وقته وبذل نفسه في سبيل تفادي الألم بدلاً من السعي وراء اللذة والعيش بهدوء، كما أوعز شوبنهاور بوصف رائع: “في حجرة صغيرة منيعة ضد النار” – وهذا الإيعاز صدم نيتشه بوصفه جبانًا وغير حقيقي، وكما عبر عن ذلك بازدراءٍ بعد عدة سنوات بقوله: “مستترٌ في الأحراج كظبي جبان.
لا يتحقق الإنجاز بتفادي الألم، وإنما بإدراك دوره كخطوةٍ حتمية طبيعية في سبيل تحقيق أي شيء جيد.
ولعل هذا هو السبب في أن العدمية عمومًا -ونيتشه خصوصًا- ظهرت مجددًا في ثقافة البوب؛ كموضوع إحدى حلقات “راديو لاب” الأخيرة. وكما نوه مذيع الراديو اللامع (جاد أبو مراد) إلى جاذبية هذه التعاليم:
“كل ما يحيط بنا من عدمية ليس متعلقًا بهدم هياكل القوة أو تبني العدم – وإنما “انظر إلىَّ! انظر إلى مدى شجاعتي!”
وبعبارة أخرى، فالاستشهاد بآراء نيتشه هو طريقتنا لنوضح للآخرين أننا لسنا خائفين، وأن الشدّة لن تحطمنا، وإنما تطمئننا. وربما لا حرجٌ في ذلك.
وختامًا، كان عالم النفس الشهير (فيكتور فرانكل) معارضًا للعدمية، بيد أننا نتبعه لذات السبب – لنطمئن ونصبّر أنفسنا ولنشعر بأننا يمكننا أن تحمل.
كتاب [إرادة القوة] لا غنى عنه وكتاب [تعازي الفلسفة] بديعٌ في مجمله. أضف إليهما جُرعة خفيفة من تعاليم نيتشه – قواعده العشر للكُتّاب، التي وردت في خطابٍ غراميٍ.
المقال باللغة الانكليزية: هنا