كتبه لـ (الميديوم) : أي. جي. درينث،
بتأريخ :12\12\2017.
ترجمة : أحمد حازم سلطان،
تدقيق : عقيل صكر،
مُراجعة: امنة الصوفي
تصميم: حسام زيدان
يُعتبر كلٌّ من “سام هاريس و جوردون بيترسون” من أشهر المُفكرين تأثيراً وانتشاراً في يومنا هذا، حيث لدى هاريس حالياً ما يقربُ من مليون مُتابع على تويتر، في حين لدى بيترسون ربع مليون متابع. هاريس مؤلّف لسبع مرات، وحاصلٌ على شهادة في الفلسفةِ وعلم الأعصاب. لدى هاريس أيضاً – من وجهة نظري – أحد أكثر المُدوّنات الصوتية صراحة، وإفادة، وبصيرة في العالم. بيترسون أستاذ علم النفس بجامعة “تورنتو” وهو طبيب نفساني سريري، ومؤلف، ومحاضِر مشهور. وهو معروفٌ على نطاقٍ واسعٍ ويُمكنُ إيجاده بسهولة على اليوتيوب، حيث يتمتّع بأكثر من نصف مليون مشترِك.
قبل أن نغوص في الاختلافات بين هذين المفكرين المهمين، حريٌ بنا الإقرار ببعض نقاط التشابه والإلتقاء. على الرغم من الميول اليسارية – خاصة لدى هاريس – فقد حارب كل من هاريس وبيترسون جنباً إلى جنب بعض القضايا الليبرالية، مثل الصَواب السياسي (يشير المصطلح الى أي عمل أو قول يصدران عن شخص ُيراعي فيهما مسايرة الرأي العام حول قضية من القضايا، خصوصا عند الإشارة إلى فئات عرقية أو ثقافية أو دينية /المترجم)، وسياسات الهوية، والنسبية الأخلاقية (ما بعد الحداثة). وأصبح هاريس مشهورا (أو سيء الصيت) بموقفه ضد التطرف الإسلامي. تسببت هذه القضايا وغيرها في تناقص عدد المناصرين لكل من هاريس وبيترسون في كل من الاطراف السياسية المتناحرة اليوم. ومع ذلك، تمكنوا وبصورة متنامية من حشد التعاطف من المعتدلين، المستقلين، وربما بعض الليبرتاريين. ومن ثم فإنهم قد مهدوا الطريق، وبشكل عفوي، لظهور حزب ثالث جديد.
في الوقت الذي لا أرغب فيه التقليل إطلاقاً من أهمية الأفكار السياسية وتأثير كل من هاريس وبيترسون، إلا أن اهتماماتي الأساسية، كطالب للفلسفة وعلم النفس، هي تسليط الضوء على وجهات نظرهم الفلسفية، بالإضافة إلى الطرق التي تُشكّل بها شخصياتهم هذه الآراء و تُوصلها.
في هذا المقال، سوف نقوم بدراسة بعض الإتجاهات الفلسفية والنفسية الأساسية لهاريس و بيترسون. وسيشمل ذلك محاولات لإكتشافها وتصنيفها فلسفياً ونفسياً على حدٍ سواء. إن القيام بذلك يجب أن يُساعدنا على فهم علاقتهما بالمفكرين الآخرين بشكلٍ أفضل، وكذلك الدوافع والمُثل العليا الرئيسة التي تقود وتحرك أعمالهم.
هاريس وبيترسون: أي نوع من الفلاسفة هما؟
من المؤسف أن عِداء هاريس التاريخي تجاه الدين قد أبعد الكثير ممّن قد تنسجم آرائهم مع أفكاره. من ناحية أخرى، يبدو أنّ هذا مؤسفاً بشكلٍ خاصٍ في ضوءِ حقيقة أن هاريس هو في الواقع أكثر إنفتاحاً من الناحية الميتافيزيقية ممّا قد يتوقعه المرء بناء على سمعته كملحد، فهو يقر باللاأدرية في أمورٍ مثل طبيعة الإدراك وحتى الحياة بعد الموت. في الواقع، يبدو أن كل من هاريس وبيترسون مُنفتحان على فكرة أن الإدراك قد يكون، بطريقة أو بأخرى، أساساً لنسيج الواقع.
من بين الاختلافات الأكثر جوهرية بين هاريس و بيترسون هو موقفهما تجاه المروّيات والرموز والانماط الاولية(أنماط سلوك بدائية تكون في الجنس البشري للتصرف في المواقف التي تكون مشابهة لمواقف الإنسان الأولى/المُترجم). بالنسبة لعقل هاريس التحليلي، تبدو هذه المواضيع غير ذات أهمية من الناحية الفلسفية أو غير ضرورية، أو في حالة الانماط الاولية غير مُقنعة تجريبياً. في رأيه، يجب أن تكون الحقيقة قابلة للفحص التجريبي، والتدقيق المنطقي، والتفسير من خلال المفاهيم والبُنى. وهكذا قد تَحجبُ الرموز والمرويات أو تشوّش رؤيتنا عمّا هو أكثر أهمية.
في ضوءِ ذلك، من المُمكن أن نُصنّف هاريس تقريباً ضمن المدرسة التحليلية للفلسفة، والتي حسب (ويكيبيديا) تتميّز بالتركيز على الوضوح والدقة الجدليين، وغالباً ما تستخدم المنطق التقليدي، والتحليل التصوري، وبدرجة أقل، الرياضيات والعلوم الطبيعية. وفي كتابه عصر التحليل، يُقدّم الفيلسوف “مورتون وايت” صورة مُصغّرة للفيلسوف التحليلي:
جميع المُحللين مُعادون للـ (ميتافيزيقيا) المكتوبة بغموض وخيالية كالنوع الذي يجده المرء في أعمال الفيلسوف “الفريد وايتهيد”، إلى النوع الذي نراه في كتابات بيرغسون وهوسرل … يعتقد المحللون أنَّ علم الفلسفة ليس منافساً للعلم، بل نشاطاً مكرّساً وبشكلٍ جزئي لتوضيحه”.
بالنسبةِ لشخصية هاريس، فنحن نكتشف فيه علاقة وثيقة بين العلم والفلسفة. على الرَغم من أنَّهُ أكثر استعداداً للتسليم بالبيانات الناتجة عن التأمّل وتقييمها أكثر من العديد من الفلاسفة التحليليين، إلّا أنَّ ولَعَهُ بالعلمِ، وكذلك الطريقة المنطقية التي يعمل بها عقله، تُمثلُ سمة مميّزة لأولئك الفلاسفة الملتزمين بالتقاليد التحليلية.
إذا فكّرنا في هاريس كعالمٍ فيلسوفٍ، فإن بيترسون أشبه بفيلسوفٍ روائي. وبوصفه لنفسه كوجودي وبراغماتي، فإن بيترسون نادراً ما يستخدم المنطق التقليدي كما أنَّهُ أقل تنظيماً ومنهجية بكثير – في أسلوبه – من هاريس. إجمالاً، أعتقد أنّنا نستطيعُ أن نُصنّف بيترسون وبثقة على الجانب الآخر من الجناح الفلسفي، وبالتحديد ضمن ما يُعرف عموماً بالمدرسة القارية للفلسفة.كما هو موضح في كتابي،(The INTP Quest):
“…تعود جذورها للأفكار الفرنسية والألمانية، حيث يُشير مُصطلح “القارة” لقارة أوروبا. بشكلٍ عام، ينجذب “الأوربيون” إلى الذاتية، والتأريخ، والمثالية، والتأمّل، والأخلاق، والتفكير التأملي … وهم أكثر إستعداداً لإنتقاد العلم والفلسفة الوضعية المنطقية.”
غالبًا ما ينتقد القاريون الفلاسفة التحليليين، بسبب عدم اهتمامهم النسبي بنظرية المعرفة (أي كيف نتعرّف على الأشياء)، وتجاهلهم للسياق التاريخي الثقافي الذي يتداخل فيه عملهم، وتجنبهم للموضوعات الأكثر أهمية للبشر – على سبيل المثال – القضايا الوجودية. في المقابل، يميل الفلاسفة التحليليون للنظر إلى القاريين على أنهم غامضون، وخياليون، ويفتقرون إلى الدقة المنهجية، إضافة إلى أنهم لا يسهمون إلا بقدرٍ ضئيلٍ من المضمون الحقيقي في تقدم المعرفة.
هذه هي بالضبط نوع المشاكل التي نراها تنشأ بين سام هاريس وجوردون بيترسون، والتي عُرِضَت بالكامل في أول مناظرة لهما في مدونتهما الصوتية والمعنونة “ما الحقيقة”. على الرغم من العديد من المحاولات المتكررة (والمؤلمة)، إلا أن كلاهما كانا يتحدثان وبشكلٍ أساسي عن بعضهما البعض، وغير قادرين على المضي قُدما نحو إجماع فلسفي. بالطبع، لن يكون ومن غير المعقول توقّع نوع مشابه من الاستقرار بين أي مفكرين على الجانبين المتعارضين للفلسفة. هناك أسباب وجيهة، في النهاية، وهي الانقسامات الفلسفية التحليلة-القارية، ناهيك عن الاختلافات السياسية بين اليمين واليسار.
موقف هاريس & بيترسون من الحقيقة:
إن مقاربة هاريس للحقيقة – ومن نواحٍ عدة – أبسط وأسهل للإيجاز من التي لبيترسون، والتي تتميّز بالإيمان في مقدرة البشر، بمساعدة العلم والعقل، لإدراك الحقيقة المجردة. يتبنّى هاريس ما يُعرف عادةً بمقاربة التوافق مع الحقيقة، والتي تفترض أن معتقداتنا – إن صحت – تتوافق مع الحالة الواقعية للأشياء. يرجعُ تاريخ هذه الفكرة إلى الفترة الكلاسيكية على أقل تقدير، وربما لوقت يسبق ذلك. يشبه هذا الرأي من نواحٍ كثيرة ما يمكن أن نُسميه مقاربة الحقيقة باستعمال “الفِطرة”، وهو الرأي الذي يتبناه معظم غير الفلاسفة بطبيعة الحال. وبالتأكيد، فإن مقاربة هاريس، الأكثر شيوعاً وبساطة، لا يجعلها خاطئة، لكنها أسهل للفهم بالنسبة لمعظم العقول الغربية.
اما مُقاربة بيترسون فانها أكثر تعقيداً كما أنّها تُقلّل من ثقتنا في قدراتنا على معرفة الأشياء باستعمال اليقين الموضوعي. ويرجع السبب في عدم اليقين هذا، في رأيه، إلى أنَّ العقل البشري يعمل دائماً في سياق مُحدّد (القاريون معروفون بهوسهم بالسياق) وهو ما يشكل ويلون معتقداتنا دائما.
أحدُ العوامل الرئيسة المُتعلقة بالسياق بالنسبة لبيترسون هو التطوّر. وتُحدد هذه الحجة على النحو التالي:
شكّلت المواجهات التطوريّة العقلَ – الدماغ البشري – للعمل بطريقةٍ عمليةٍ، وغالباً ما كان البقاء هو الهدف. إذا كان العقل الحديث لا يزال يعمل وفق الالية التطورية، أي عملياً في أهدافه، هذا يعني أنَّ أداءه لن يتحسّن لإدراك المعرفة الموضوعية، أي المعرفة المُنفصلة – أو المستقلّة – عن هدف البقاء.
وقد قدّم “يورغن هابرماس”، الفيلسوف القاري المشهود له والمعروف بعمله في النظرية النقدية، حجة مُماثلة، وهي أنَّ الفكر العلمي “الموضوعي” قد تمَّ وضعه وتطويره من قَبل، في سياق موضوعي – وغير موضوعي – في عالم الحياة. ولذلك، من الخطأ اعتباره موضوعياً حقّاً لأن عناصره غير الموضوعية مُترسخة ولا يُمكن ازاحتها.
مثل العديد من العلماء، يُظهِر “هاريس” القليلَ من الصبرِ حيالَ هكذا نوع من النقاشات. بالنسبة له، هنالك حقائق مؤكّدة أو حقائق واضحة بشكلٍ جلي ممّا يعني أنَّ التشكيك في حقيقتها الملموسة لا يبدو أقل من عمل عبثي. ولأن هذه الحقائق الثابتة بمتناول أيدينا، لا نحتاج لبذل جهدٍ لا داعي له للتشكيك في دقة العلم والتفكير المنطقي.
لكي أكون واضحاً، إن بيترسون ليس – وبأي حال من الأحوال – معادياً للعلم، أو جاهلاً به. في الواقع، العديد من أحاديثه وكتاباته مُدعّمة بالمراجع العلمية. ومع ذلك، يبدو أكثر ميلاً للإبتعاد عن العلوم الصرفة والإحتفاء بالأفكار التي تتّعلق بالأمور الغيبية، مثل المفاهيم الدينية، الأنماط الأولية واللاوعي الجمعي (اصطلاح يستخدمه علماء التحليل النفسي للدلالة على تلك العناصر في العقل الباطن لدى الفرد أو في اللاشعور، المستقاة من خبرات العِرق وتجاربه. أي أنها عناصر مستمدة من تجارب الجماعة ومرصودة في العقل الباطن للفرد/ المترجم)، والاستشهاد بنظرية الأنماط الأولية (مُقترح من قبل العالم السويسري كارل يونغ لشرح الصور النمطية الأولية، بمعنى آخر، كل الصور المرتبطة بالأحلام واللاوعي والأوهام التي تقترن سويًا بدوافع عالمية خاصة تنتمي إلى الأديان والأساطير والخرافات. هذه الأنماط عبارة عن تلك الصور القديمة المستقلة والتي بدورها تكون المكون الأساسي للاوعي الجماعي/المترجم). وكما سنرى، فإن رؤية “بيترسون” للحقيقة تتجاوز الحدود المعيارية للعلوم التجريبية، أكثر من رؤية هاريس.
المُثل الفلسفية:
مثل كل الفلاسفة، يُمكن رؤية كل من هاريس وبيترسون على أنّهما مُسترشِدين برؤية فلسفية شاملة أو مثالية. وسأقول إن نموذج هاريس المثالي، يتضمّن ما يمكن أن نُطلق عليه “الأخلاقيات العقلانية”. أي أنَّهُ يهدف إلى ترسيخ عالم أكثر تنظيماً وعقلانية، وهو عالم يتم فيه تبرير السلوك الأخلاقي بالاستدلال المنطقي السليم. قد يُجادل المرء حتّى بأن فلسفة “هاريس” تتمحور حول المسؤولية، الأمر الذي يستلزم موالمة الأخلاق مع نتائج العلم والمنطق.
على النقيضِ من ذلك، أعلنَ “بيترسون” فلسفة تتمحور حول المعنى او السياق، على النحو الذي اقترحه عنواناً لعمله الأساسي، خرائط المعنى. على عكس “هاريس”، لا يركز “بيترسون” على السلوك الأخلاقي في حدِ ذاته، ولكنه يرى عموماً بأن الحياة ذات المغزى تُمثل مؤشّراً، أو سبباً لحياةٍ سعيدة. وبعبارةٍ أخرى، إذا كان الناس سعداء، وراضون بحياتهم، فبطبيعة الحال سوف يتصرفون بشكلٍ أكثر استقامة. يجادل بيترسون أيضاً بأن البشر ليسوا عقلانيين، وبالتالي قد يفشلون في الاستجابة للنقاشات أو الإملاءات العقلانية. يتلاءمُ هذا بشكلٍ جيّدٍ مع تأكيده على الأسطورة، والحكايات السردية باعتبارها أقوى من الناحية التاريخية، وأكثر إقناعاً لمعظم الناس من النقاشات المنطقية.
في محاضرته حول كتابه خرائط المعنى، يُقدّم “بيترسون” مشاهدته الجديرة بالملاحظة فيما يتعلّق بالمعنى المزدوج لكلمة “matter”(تُترجم مادة أو اهمية/المترجم) في حين أنّ المادة يُمكن بالطبع أن تُشير إلى كُتل البناء في الكون، إلّا أن كلمة matter تتضمّن ايضا ما هو أهم بالنسبة لنا – ما المهم حقاً – ثم يُشير إلى أنَّهُ حتّى العُلماء الذين دائماً ما يحاولون إخضاع كل شيء “للمادة” والآليات، لا يزال دافعهم أو تصرفاتهم كما لو أنَّ همّهُم الأساسي هو ما “يهم”.
وتماشياً مع وصفه لمنهجه بالمنهج البراغماتي للحقيقة، يؤمن “بيترسون!” أنّ ما تم اثباته على أنّه الأكثر أهمية لنا في سلوكنا اليومي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار بطريقة أو بأخرى في تكوين مفهومنا عن الحقيقة. فقط من خلال تقديم هذا التنازل يُمكنُنا أن ندّعي بثقةٍ أنّ الأعمال التي تنّشأ من وحي الخيال، على سبيل المثال، التي تتعامل مع ما يُمكن أن نسميه حقائق حيّة، مؤهّلة لإعتبارها حقائق. وبينما يقرّ هاريس على مضضٍ بأن هناك حقيقة في الخيال، فإنّه لا يزال يبدو ميالاً للإعتقاد بأنَّ الكثير من سياق الأساطير يُمكن تجريده وأيّاً كانت الحقيقة التي يتضمّنها فإنّه يُمكن استخلاصها والتعبير عنها بلغة المفاهيم أو الحجج العقلانية. يعارض بيترسون، ولا غرابة في ذلك، فهو يرى بأن السياق الكامل – القصة كاملة – يمثل عاملاً حاسماً في تهيئة القلب والعقل لتلقّي أية حقيقة يحتويها.
لا شك في أن هناك الكثير ممّا يُمكن قوله فيما يتعلّق بالانقسام الفلسفي بين “هاريس” و “بيترسون”. ولكن لأن التاريخ يطلعنا على أنّ أساليب تفكير كلٍّ من هاريس وبيترسون، ليست فريدة من نوعها تماماً، إنما يمكن فهمها بإعتبارها من الأنماط الفلسفية، فإن القرّاء الذين يبحثون عن المزيد من العلم، يمكنهم مراجعة أبحاث موجودة حول الفلسفة التحليلية، مقابل الفلسفة القارية وما شابه.
يجب علينا الآن الإنتقال لفهم العلاقة بين الفلسفة والشخصية، بما في ذلك السبل المحددة التي يمكن من خلالها للعوامل الشخصية أن تُخبر عن وجهات نظر كل من هاريس وبيترسون.
الاختلافات الشخصية:
إنَّ الفكرة القائلة بأن بُنية عقل الفرد تشكّل ميوله الفلسفية هي فكرة قديمة، لكن التعبير الأكثر شمولاً يُمكن العثور عليه في عمل الفيلسوف كانط “نقد العقل المحض” ، وكذلك في الانماط الشخصية التي حددها كارل يونج . ولكن قد يكون “وليام جيمس” قد قال أفضل ما قيل في عمله الكلاسيكي الفلسفي” البراغماتية”:
“إن تاريخ الفلسفة، وإلى حدٍ كبير، صراعٌ حتميٌ بسببِ إختلاف الطبائع الإنسانية … أيّاً كان مزاج الفيلسوف، فإنه يُحاولُ، عندما يتفلّسف، أن يُخفي حقيقة مزاجه… ومع ذلك، فإن مزاجه في الواقع يمنحهُ إنحيازاً أشدّ من تاثير أيّاً من مُعطياته المنطقية، الموضوعية، والأكثر صرامة… هو يثق في مزاجه. ويُريد الكون الذي يلائمه، يؤمن بأيِّ تصوّر للكون يناسبه… ولكنه لا يستطيع عند المناقشة أن يكون، بمعزلٍ عن مزاجه، و القدرة على التمييز أو الحكم الأرجح. وبالتالي ينّشأ هناك قدر معين من التناقض في أبحاثنا الفلسفية “.
ولأسبابٍ نذكرها بعد قليل، فإن هاريس – المؤمن القوي بالحقيقة الموضوعية، وقدرتنا على معرفتها – أكثر عرضة لأن يُختلف معه، أو لأن لا يُعجب به، في أبحاث “جيمس” من بيترسون. وتماشيا مع رأي جيمس، فإني أرى أن ما ينبع من نمط شخصية “هاريس”، يرجع سببه الى رؤيته النفسية.
إن مفهوم “الأنماط” لا يقتصر بأيِّ حالٍ من الأحوال على الدراسات التي تتعلّق بالشخصية. لقد رأينا بالفعل، على سبيل المثال، كيف يُمثّل “هاريس و بيترسون” نمطين فلسفيين مختلفين. وعلى الرغم من أنّهُ من المؤكّد أن هناك الكثير الذي يُمكن اكتسابه من دراسة الأنماط الفلسفية، يمكنُنا أن نذهب أكثر عمقاً من خلال ارجاع هذه الانماط الفلسفية إلى النفسية منها.
على الرغم من أبحاثهِ المُتكرّرة وإعجابه الواضح بـ”كارل يونج”، فإنَّ “بيترسون” يُشير عادةً إلى نظرية عناصر الشخصية الخمسة ( يُعتقد أنّها الأبعاد التي تكوّن شخصيّة الإنسان على المستوى البَديهي. أُخِذت هذه النظرية أساساً من غورىون ألبورت في منهج السمات في علم نفس الشخصية /المترجم) أكثر من إشارتهِ لنموذج مايرز – بريغز ( اختبار لتصنيف الشخصيات البشرية اعتمادا على نظريات كارل يونج / المترجم) إلى حدٍ ما، هذا أمر مفهوم في ضوء حقيقة أن “العناصر الخمس” هو النموذج الأكاديمي الرائد، وصادف أن “بيترسون” أستاذ جامعي في علم النفس. ولأن هذا ليس المكان المناسب لتوضيح ألادلة على عمل نظريات كارل يونج، لا يُمكنني إلا أن أحيلَ القرّاء إلى رسالتي حول هذا الموضوع.
هنا، سأقدّم بعض المُلاحظات حول أنماط (مايرز – بريغز) لكل من “هاريس وبيترسون”، بما في ذلك كيف يُمكن لأنماطهم تشكيل الفلسفات الخاصة بهم.
من وجهة نظري، يكاد يكون “هاريس” ومن غير أدنى شك من نمط (INTJ) – الخياليون والمفكرون الإستراتيجيون، لديهم خطة لكل شيء – أمّا “بيترسون” فهو من نمط (ENTP) -المُفكرون الفضوليون، والأذكياء الذين لا يُمكنهم مقاومة أي نوع من التحدي الفكري -. أوّل شيء يجب أن تلاحظه هنا، هو أنّ كليهما من نمط (NT)، والذي يدل على تفضيلهم المشترك للحدس (N) والتفكير (T) بدلاً من الإحساس (S) والشعور(F). ومع ذلك، فإن حقيقة أنّ هاريس من نمط الحكم (J) يعني، وفقاً لنموذج (مايرز – بريغز) أنّهُ سيظهر جانبه الحكيم للعالم من خلال التأكيدات القوية والمباشرة، والتي من الواضح أنّه يُظهرها، في حين أنّ “بيترسون” من النمط الإدراكي (P)، ممّا يُشير إلى عرض أكثر إنفتاحاً ومرونة وتقبلاً للآخر.
والأهم من ذلك، هو كيف تُتَرّجم هذه التفضيلات الشخصية إلى تفضيلات فلسفية. يُمكن اعتبار الأشخاص من نمط (INTJ) مثل “هاريس، وريتشارد دوكينز، وأل غور، طموحين لجعل العالم مكاناً أكثر عقلانية، خالياً من الأمراض الكثيرة التي يرونها ناشئة عن التفكير غير العقلاني. يُمكن الاستشهاد على ذلك، بمثال، عنوان كتاب (ال غور) الاعتداء على المنطق، وكذلك في التأكيدات التالية من قبل هاريس: “لا شيء مُقدّس أكثر من الحقائق” ، و “عندما نخسر صوابنا، نفقد اتصالنا مع العالم ومع بعضنا البعض“ ، هذه المواقف، بالاقتران مع تبجيلهم للعلم والموضوعية، تنبع من استخدام الأشخاص من نمط (INTJ) لما أطلق عليه كارل يونج بالتفكير المنفتح (Te).
على النقيض من ذلك، يستخدم نمط شخصية بيترسون، (ENTP)، التفكير الحدسي (Ne) جنباً إلى جنب مع التفكير الموضوعي (Ti). هذا المزيج من الوظائف (التي يستخدمها أيضاً الأشخاص من نمط INTP) ينتج ما وصفه وليام جيمس (من المرجّع أنّه من نمط ENTP) فيلسوفاً بـ ”عقل رقيق” في مقابل فيلسوف بـ ”عقل قوي”. كما هو موضّح في رسالتي، حاجة نمطي (INTP\ENTP) إلى الغموض، غالباً ما ينجذب الأشخاص من نمط (NTP) إلى الدين والتصوّف و أو لما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) بسبب الإحساس بالمعنى والغموض المتولّد بداخلهم بفعل (الميتافيزيقيا) وهو ما ينطبق بالتاكيد على “بيترسون”.
في ضوء اهتمام “هاريس” بالتأمّل ولفترةٍ طويلةٍ، قد يميل المرء إلى اعتباره من نمطٍ غامضٍ أيضاً. في حين أنّه يجل التأمّل وبوضوحٍ لدورهِ في اكتساب العقل والوعي، المزيد من التبصّر والفطنة، فهو ليس ميالاً للغموض بالطريقة التي يميل إليها الاشخاص من نمط (NTP). كنقطة للتوضيح، نادراً ما يتضايق الأشخاص من نمط (INTJ) بفكرة شرح الحياة وتطورّها من حيث الآلية الخالصة. ومع ذلك، وكما نوقش في كتابي، (The INTP Quest)، فإن هذه الفكرة يُمكن أن تكون مُثيرة للإشمئزاز عند الأشخاص من نمط (NTP)، وكثير منهم يفضلون رؤية الكون على أنّه حيّ بطريقة ما، أو قد نُفخت فيه نفس أو روح، كما هو مذكور في العديد من الفلسفات الوجودية وفي أعمال أشخاص من نمط (NTP) مثل “سبينوزا، وهيغل، وفيكتا، وبيرغسون، وتيليتش” الخ . ببساطة فإن التفكير الآلي لا يدع مجالاً للغموضِ والشك الذين يُلهمان أشخاصاً من نمط (NTP).
على وجه العموم، تكون الأنماط الشخصية لدى (NTJ)، مثل هاريس، أكثر تنظيماً ومنهجية في تفكيرهم، وغالباً ما تنجذب إلى أساليب موضوعية وأنواع أكثر منهجية من المنطق. وبالتالي يمكن ربطها بالفلسفة التحليلية والعلمية، حتّى لو كان ذلك فقط بالنسبة للطريقة التي تفكّر وتتعامل بها مع المشاكل الفلسفية.
عادةً ما ينجذب أشخاص من نمط (NTP)، مثل بيترسون، إلى التفكير الميتافيزيقي، والفلسفات التي تركز على المعنى (بما في ذلك الدين)، والتاريخ، والوجودية، والأشكال الأخرى للفلسفة القارية. بدلاً من رؤية الأشياء من خلال عدسة ميكانيكية، يُفضّل الكثيرون الفلسفات التي تولّد شعوراً بالغموض تجاه الحياة والإنسانية. في حين أنّ الأشخاص من نمط (NTJ) يوصفون بشكلٍ جيد، على أنّهم موجهون للمعرفة، فإن الأشخاص من نمط (NTP) عادةً ما يكونون أكثر اهتماماً بالقضايا الوجودية، أشياء مثل المعنى والحكمة. كما أنّهم أكثر إرتياحاً للسماح لحقائق معينة بالبقاء ضمنية أو كامنة، لأن ذلك يُحافظ على الإحساس بالغموض والإمكانات الذين يقدرونهما.
ملاحظات ختامية:
وكما ذكرنا أعلاه، فشلت مناظرة “هاريس و بيترسون” الأولى في إنتاج الكثير، في طريق تحقيق إجماع فلسفي. عندما يفشل اثنان من العقول العظيمة، مثل هذه، في التزامن، حري بنا أن نسأل أنفسنا لماذا.
المُفسّرون الموضوعيون، قادرون على تفسير حالات الفشل هذه، من حيث حدوث بعض العجز في المعرفةِ أو الفَهم من جانبٍ واحدٍ على الأقل. وجهةُ نظر بديلة، أوجَزَها “جيمس” وتمَّ تفصيلُها من قِبل كارل يونج، هي أنَّ الاختلافات الفلسفيّة إلى حدٍ كبيرٍ تخضعُ للاختلافات النفسيّة.
في هذا المقال، اعتمدنا المنظور الأخير. وهذا لا يعني أنَّهُ لا توجد حقيقة موضوعية، أو أنَّهُ لا يُمكنُ تقريبُها بشكلٍ أفضل. لكن يجب أن نكون مستعدين للإقرار بهذهِ المشكلة – الشخصية / العوامل النفسية – إذا أردّنا أن يكون لدينا أيَّ أملٍ في تجاوز الجمود الفلسفي.
رابط المقال باللغة الانجليزية : هنا