«كله كلام، جدي ظل طول عمره يشرب السجائر، وللآن عايش ما يشكي من أي شيء، وصحته أحسن مني أنا الذي لا يشرب سجائر»
كانت جميع الطائرات الحربية التقليدية في الماضي بحاجة إلى درع يحميها من نيران العدو. ضَعْ كثيرا من التدريع وستكون الطائرة ثقيلة مما يُحِد من قدرتها على المناورة ويزيد استهلاك الوقود، ضع قليلا من التدريع وستكون هدفا سهلا للأعداء. بين هذين الاختيارين تكون هناك قيمة مثالية لكمية التدريع، بحيث نحصل على حل وسط بين الحاجة إلى حماية الطائرة والحاجة إلى تخفيف وزنها.
في خضم الحرب العالمية الثانية، قام باحثون تابعون للجيش الأمريكي بحساب عدد الإصابات في الأماكن المختلفة من الطائرات العائدة من المعارك في أوروبا. فوجدوا أن الإصابات لم تكن مُوزّعة بشكل منتظم على الطائرات.
النسبة الأكبر من الإصابات كانت في الهيكل الرئيسي للطائرة، والنسبة الأقل في محركات الطائرة. الآن كل ما هم بحاجة إليه هو عبقري رياضي يحول هذه النسب إلى الكميات اللازمة من التدريع للطائرات. أخذوا أوراقهم وذهبوا لإلى أحد أهم علماء الإحصاء في ذلك الوقت، إنه العالم اللاجئ من بطش هتلر: إبراهام والد Abraham Wald.
الباحثون: سّيِد والد، عدد الإصابات لوِحدة المساحة في هيكل الطائرة الرئيسي بلغت 1.8، وفي المحركات بلغت 1.1. نريد أن نعرف كم نحتاج من التدريع لكل قسم من أقسام الطائرة؟
والد: ضعو النسبة الأكبر من التدريع للمحركات.
الباحثون: ماذا؟ لكن المحركات تلقت الحصة الأقل من الإصابات كما ترى؟
والد: طبعا. لأن الطائرات التي تلقت النسبة المتبقية من الإصابات في المحركات قد سقطت في ارض المعركة!
هذه إحدى أشهر الأمثلة على خطأ منطقي يُدعَى (انحياز البقاء – Survivorship bias)، وفيه تقوم بتقييم الواقع على أساس المحاولات الناجحة وتهمل تلك الفاشلة.
أدرك والد أن الباحثين أخذوا في اعتبارهم الطائرات الناجية فحسب وأهملوا تلك التي سقطت في أرض المعركة، وبهذا فبياناتهم تمثل الطائرات التي تستطيع تحمل أكبر قدر من الإصابات في الهيكل الرئيسي من دون أن تسقط، في حين أغلب الطائرات التي تلقت إصابات في المحركات قد سقطت. المحركات هي نقطة الضعف، وعندها لابد أن تُركَّز الدروع.
يقع أهل الاقتصاد في نفس الإشكالية عندما يُقيّمون السوق على إساس عوائد الشركات العاملة، ويهملون تلك التي فشلت وخرجت من سباق المنافسة. الطامة الأخرى أن كل النصائح التي يقدمونها للشركات الجديدة تعتمد فقط على تلك التي نجحت، متناسين نسبة الشركات التي فشلت والتي قد تكون عملت بنفس تلك النصائح دون أن تنقذها من الفشل. لا يمكن معرفة أسباب النجاح إلا بالمقارنه مع الفشل، حتى تميز بين عوامل النجاح الحقيقية والعوامل غير المؤثرة أو السيئة.
يقع بعض الذين يدرسون الادّعاءات الباراسايكولوجية إحصائيا في نفس الخطأ. نشر (جوزيف ريني) دراسة زعم فيها أنه حدد عددا معينا من إصحاب القدرات الفائقة، من خلال حساب احتمالات قدرتهم على توقع شكل معين مرسوم في كروت مقلوبة بحيث لا يرى الشخصُ الشكلَ المرسوم. وجد جوزيف أن عدد المرات التي نجح فيها بعض الأشخاص كانت أكبر من عدد المرات التي يمكن أن تحدث نتيجة الصدفة.
بتدقيق حسابات جوزيف، تبين أن اختباره يعتمد على أن يمر الشخص باختبار أوليّ، وفيه يُستبعَد الشخص إذا لم يتجاوزه. لو أخذنا في اعتبارنا الذين استُبعدوا، سنجد أن نسب النجاح ستكون أقل أو مساوية لما يمكن توقعه لو كان الاختبار محكوما بالصدفة.
هل ينتابك الشك في قول العلماء إن معدل عمر الانسان قبل تقدم الطب كان حوالي ٢٥ سنة، لأنك تعلم عن شخصياتٍ تاريخية عاشت إلى عمر الـ٦٠ أو الـ٧٠ قبل مئات السنين من تطور الطب؟ هل تعتقد بصحة قارئي الطالع والأبراج لأن كلامَهم انطبق عليك أكثر من مرة؟ هل تعتقد أن الأرض أكثر ملائَمة بكثير للحياة مقارنة بالفضاء الخارجي لكثرة أنواع الكائنات الحية التي تراها تجُول أمامك؟
في كل هذه الحالات وغيرها؛ أنت تقع بنفس خطأ صاحبنا «أبو السجائر» في أول المقالة.
المصدر: كتاب كيف لا تكن على خطأ