ترجمة: امنة الصوفي
تدقيق: نعمان البياتي
لأن مفهوم العلمانية عادة ما ينظر إليه على أنه في موقف معارض للدين، فإن كثيراً من الناس قد لا يدركون أنها وضعت أصلاً في سياق ديني، وقد يكون هذا أيضاً مفاجأة للمتعصبين دينياً، الذين يعارضون نمو العلمانية في العالم الحديث، فبدلاً من كونها مؤامرة إلحادية لتقويض الحضارة المسيحية، وُضعت العلمانية أصلاً ضمن سياق مسيحي، ومن أجل الحفاظ على السلام بين المسيحيين.
في الواقع، إن مفهوم الفصل بين التوجه الروحاني والتوجه السياسي، يمكن العثور عليه في نظم العهد المسيحي الجديد؛ فالمسيح نفسه كناصح لقومه، دعا الى التمييز بين القيصر وما لقيصر، وبين الله وما لله؛ وفي وقت لاحق، طور عالم اللاهوت المسيحي، أوغسطين تقسيماً أكثر منهجية من خلال التمييز بين “مدينتين”، الأولى تهتم بعالم الأرض، أو ما يسمى بـ (مدينة الارض)، والأخرى تهتم بعالم الله، أو ما يسمى (مدينة الرب).
على الرغم من أن أوغسطين استخدم هذه المفاهيم كوسيلة لشرح كيف أن هدف الله من أجل البشرية تطور عبر الزمن، إلا إن هذه المفاهيم كانت تستخدم من قبل الآخرين لتحقيق أهداف متطرفة؛ فقد حاول البعض من الذين سعوا إلى تعزيز مبدأ الأسبقية البابوية، إلى فكرة إن الكنيسة المسيحية المرئية هي المذهب الأحق في عالم الأرض، ونتيجة لذلك، كانت لها الطاعة العظمى، والأكبر من الحكومات المدنية؛ وسعى آخرون إلى تعزيز مبدأ الحكومات العلمانية المستقلة، واستخدام مقتطفات من أوغسطين التي أكدت على الدور الهام الذي تلعبه الحكومات المدنية.
وهذا الدفاع اللاهوتي عن القوى المدنية المستقلة كان سيصبح في نهاية المطاف الفكر الذي سينتصر.
في أوروبا القرون الوسطى، عادة ما كان يستخدم المصطلح اللاتيني (saecularis)، أو العلمانية للإشارة إلى “الحقبة الحالية”، ولكن في الممارسة العملية، كان يستخدم أيضاً لوصف أولئك الأفراد من رجال الدين الذين لم يأخذوا نذور الرهبان، حيث اختار رجال الدين هؤلاء العمل “في العالم” مع الناس بدلاً من محو أنفسهم، والعيش في عزلة مع الرهبان.
وبسبب عملهم “في العالم”، لم يتمكنوا من الارتقاء إلى المعايير السامية للأخلاق، والتدبير الشخصي، ومن ثم منعهم هذا من الحفاظ على الطهارة الكاملة المتوقعة منهم؛ أما أولئك الذين اتخذوا نذور الرهبانية، فقد كانت المعايير السامية في متناول أيديهم، ونتيجة لذلك كان من المألوف بالنسبة لهؤلاء، أو لكهنوت الكنيسة أن ينظروا بتدنٍّ إلى رجال الدين العلمانيين.
وهكذا كان الفصل بين نظام ديني طاهر، ونظام دنيوي مجتمعي أقل طهارة، جزءاً كبيراً من الكنيسة المسيحية حتى في أوائل قرونها؛ وقد نمى هذا الفصل في وقت لاحقٍ عندما فرق علماء الدين بين الإيمان والعلم، وبين اللاهوت المختص بالوحي واللاهوت الطبيعي.
وكان الإيمان والوحي، ولفترة طويلة، يمثلان النظام التقليدي للتعليم، والعقيدة التي تخص الكنيسة؛ ومع مرور الوقت، بدأ عدد من اللاهوتيين يجادلون بوجود مجال منفصل للمعرفة يهتم بالمنطق البشري، وبهذه الطريقة طوروا فكرة اللاهوت الطبيعي، والتي وفقاً لها يمكن الحصول على معرفة الله ليس فقط من خلال الوحي والإيمان، ولكن أيضاً من خلال العقل البشري، من خلال المراقبة والتفكير في الطبيعة والكون.
في وقت مبكر، تم التأكيد على إن هذين المجالين من المعرفة في الحقيقة، يشكلان سلسلة متصلة، ولكن هذا التحالف لم يدم طويلاً؛ ففي نهاية المطاف، قال عدد من علماء الدين، ولا سيما دانز سكوتس، وويليام أوكهام، إن كل عقائد الإيمان المسيحي تستند أساساً إلى الوحي، وعلى هذا النحو فإن هذا المنطق كان مليئاً بالتناقضات التي من شأنها أن تسبب مشاكل للمنطق البشري.
ونتيجة لذلك، اعتنقوا الموقف القائل بأن المنطق البشري، والإيمان الديني متناقضان، فالمنطق البشري يجب أن يعمل في النطاق التجريبي، والمشاهدة المادية، ولربما قد يصل إلى نفس النتائج التي يصل اليها الاعتقاد الديني، ودراسة الوحي فوق الطبيعي، ولكن لا يمكن جمعهما في نظم دراسية موحدة، فالإيمان لا يمكن أن يستخدم لإحراز المنطق، والمنطق لا يمكن أن يُستخدم لبناء الإيمان.
لم يكن الاندفاع الأخير نحو العلمانية على نطاق واسع بسبب العلمانيين المعارضين للمسيحيين، ولكن من قبل المسيحيين المخلصين الذين ذعروا من الدمار الذي سببته الحروب الدينية، والتي اجتاحت أوروبا في أعقاب حركة الاصلاح الديني؛ في البلدان البروتستانتية كانت هناك في البداية محاولة لترجمة مبادئ المجتمع الديني إلى المجتمع السياسي الأوسع، والتي فشلت بسبب الانقسامات المتنامية بين الطوائف المسيحية.
ونتيجة لذلك، أصبح الناس بحاجة إلى إيجاد قاسم مشترك في حال أرادوا تجنب الحرب الأهلية، وهذا أدى إلى اختزال السلطات العلنية، والصاخبة إلى منهاج مسيحي محدد، وأصبح الاعتماد على المسيحية، في حال بقائها، أكثر عمومية، وأكثر منطقية؛ أما في الدول الكاثوليكية، فقد كانت العملية مختلفة، لأنه كان يُتوقع من أعضاء الكنيسة أن يواصلوا الالتزام بالعقيدة الكاثوليكية، ولكن سُمح لهم أيضاً بدرجة من الحرية في الشؤون السياسية.
وعلى المدى الطويل، كان هذا يعني أن الكنيسة استُبعِدت أكثر فأكثر من الشؤون السياسية، حيث وجد الناس أنهم يفضلون وجود عالم من العمل والفكر، حيث يمكنهم أن يكونوا متحررين من السلطات الكنسية؛ وأدى ذلك بدوره إلى انفصال أكبر بين الكنيسة والدولة عما كان موجودا في البلدان البروتستانتية.
أما محاولة الفصل بين الإيمان والمنطق على أنهما نوعان مختلفان من العلوم بدلاً من جوانب مختلفة من العلم نفسه، فلم يلقَ ترحيباً من قبل رؤساء الكنيسة؛ ومن ناحية أخرى، أصبح هؤلاء الرؤساء أنفسهم مضطربين بشكل متزايد مع نمو التكهنات العقلانية في الفلسفة، واللاهوت؛ وبدلاً من قبول الفصل، سعى قادة الكنيسة إلى قمع تلك التكهنات، على أمل المحافظة على الإيمان، الذي اتسمت به المسيحية لقرون، مع الاحتفاظ بالتفكير المنطقي، ولكن على شروطهم الخاصة؛ إلا إنها لم تنجح، بل انتقلت خارج نطاق الكنيسة، وإلى المجال العلماني المتزايد حيث يمكن للناس أن يعملوا بشكل مستقل عن العقائد الدينية.
رابط المقال المصدر: هنا
شاهد أيضاً
الإرادة الحرة.. حقيقة أم أسطورة ليبرالية؟
ترجمة: آمنة الصوفي تصميم الصورة: أحمد الوائلي في عام 2016 هيمنت على العالم مفاهيم الليبرالية …
جوردان بيترسون وقصة برج بابل
كتبه لموقع “ناشونال كاثوليك ريجيستر”: كريستوفر كاكزور* نشر بتاريخ: 12/9/2018 ترجمة: إبراهيم العيسى تدقيق: أمير …