بقلم: سونيا شاه
الكاتبة في مجال العلوم سونيا شاه توضح لماذا ليس خطأك أنك تنجذب للشريك السيء.
بالرغم من بقاء بُنية الحب الدقيقة غامضة تمامًا, فإن علم الأحياء التطوري يقدم عدة قواعد عامة. أولها يتوجب على البشر الانجذاب لشركاء يُنظر لهم على انهم سيكونون شركاء جيدين ويساعدون بإنجاب اطفال أصحَاء. وعليه سيكون المبدأ المنطقي البسيط : إن الاشخاص الذين ينجذبون لشركاء سيئين يميلون لعدم إنجاب الكثير من الأطفال, أومن اولئك الذين لا يستطيعون النجاة, الأمر الذي يؤدي لانخفاض أعداد البشر عبر الزمن.
يكمن التعارض في حالة البشرية في أن جاذبية الشركاء لا تبدو مترابطة مع احتمالية كون الشركاء أباءا جيدين. دراسات عبر ثقافية أظهرت إن النساء تنجذبن لملامح وجه الذكر التي يسيطر عليها ويبرزها هرمون التستوستيرون كالذقن الواسع والعيون العميقة والشفاه الرفيعة. فبصورة عامة, كلما ارتفع هرمون التستوستيرون عند الذكر, كلما زاد احتمال انجذاب النساء له. ولكن وفي ذات الوقت كلما ارتفع هرمون التستسرون لدى الذكر, كلما قل احتمال ان يصبح والدا جيدا. فبالمقارنة مع الذكور ذوي مستوى التستوستيرون المنخفض, فإن الذكور الذي يملكون مستويات عالية من التستوستيرون اكثر عرضة لاتخاذ السلوك غير الاجتماعي كما ويكونون اقل احتمالا لأن يتزوجوا. وإن تزوجوا, فهم أكثر عرضة للانفصال, ولإرتكاب الخيانات ولإستخدام العنف بحق شركائهم. فالمستوى العالي من التستوستيرون, في هذه الحالة, يجب ان يجعل هؤلاء الذكور اقل جاذبية للنساء. لكن العكس هو ما يحدث.
فالذقن الواسع والعيون العميقة وباقي الصفات الجاذبة هي بتعبير آخر كذيل الطاووس. فهذا الذيل الطويل والثقيل والمبهرج بشكل بارز هو عائق واضح امام فرص بقاء ذكر الطائر. هذه الحقيقة توجب على اناث الطاووس الباحثات عن شركاء جيدين ان يُفضلَن ذكورا بذيول اقل بهرجة. لكن وكما أظهرت العديد من الدراسات أن إناث الطاووس يُفضلًن الذكور ذوي الذيول الاطول والمزخرفة اكثر تماما كما هي الحال مع اناث البشر اللواتي تُفضلن الذكور الذين يملكون معدلات اعلى من التستوستيرون.
يقول علماء الأحياء التطورية إن ذيل ذكر الطاووس الطويل والمزخرف ذي الألوان المتعددة هو كالعائق لكنه يضلل الانثى بأن مالكه هو شريك قوي وكفوء. فهو بمثابة الدعاية. فواحدة من الاشياء التي يشير اليها هي قوة دفاعات الذكر ضد الميكروبات. فذكور الطاووس ذوي الذيول الأطول والأكثر بهرجة ,كما وجد العلماء, يمتلكون أنظمة مناعية أقوى كما يمتلكون نسب إصابة أقل بالميكروبات من الذكور ذوي الذيول الأقصر. وإنتقائهم من بين الذكور ذوي الذيول الباهتة الأقصر يساعد الإناث على النجاح في انتاج افراد جدد. فالإناث اللاتي يتزاوجن مع الذكور ذوي الذيول الأطول بالمقارنة مع الإناث اللواتي يتزاوجن مع الذكور ذوي الذيول الاقصر يملكن صغارا أكبر حجما عند الولادة وهذا ما يزيد من فرص نجاتهم في الطبيعة. وعلى الرغم من حقيقة ان الذيول الطويلة والمبهرة تشكل عائقا امام نجاة الطائر, الا ان إناث الطاووس مستمرة في الانجذاب لهذا النوع من الذكور.
ان الملامح الذكورية لدى البشر والتي تشير لمستويات تستوستيرون عالية تؤدي دوراً مشابهاً لما يشير اليه ذيل الطاووس. فهذه الملامح بمثابة دعاية لقوة النظام المناعي للذكر: فالمستويات العالية للهرمون ترتبط بدفاعات مناعية أقوى. فتجد الإناث أن ملامح الوجه التي يكون خلفها التستوستيرون العالي جذابة لنفس الأسباب التي تجعل إناث الطاووس ترى الذيول الطويلة والمبهرجة جذابة: فهي تدل على براعة شركائهن في مكافحة الميكروبات.
وقد وجد علماء النفس في دراسة اُجريت على 29 ثقافة مختلفة إن أولئك الذين يشددون على اهمية الجاذبية الجسدية لشركائهم المحتملين هم في الحقيقة من يحملون نسبة اكبر من الميكروبات. وقد وجدت دراسة أخرى ان الاناث اللواتي يملكن وعيا أكبر بالأمراض المعدية يُفضلَن ذكورا بخصائص رجولية أكثر بروزا. كما أن هناك دليلا مختبريا يدعم الربط بين الافكار عن الجمال الذكوري والأمراض المعدية. فقد تلاعب العلماء بإحدى التجارب بخوف الخاضعين للاختبار من الامراض المُعدية (فمثلا تم عرض مجموعة من الصور تظهر قماشا أبيضا ملطخا بالدماء عليهم) ومن ثم تم سؤالهم لتقييم الخصائص الذكورية. وقد وجدوا ان النساء اللواتي تم رفع وعيهن بالأمراض المعدية قد فضلن صور الذكور الذين يمتلكون رجولية أبرز مقارنة بالنساء اللواتي لم يتم إثارتهن( بتعريضهن لرؤية الدم).
للجاذبية واختيار الشريك, والذي نشأ كأستراتيجية للنجاة من الاوبئة القديمة, جانب آخر لافت للنظر له علاقة بمستضدات الكريات البيض البشرية المُميزة للميكروبات (HLA genes). فأختيار شريك له جينات مُميزة للميكروبات مختلفة عن جيناتك تُحسن فرص نجاة اطفالك من مجموعة واسعة من الميكروبات. فبالحقيقة إن الأزواج الذين يملكون جينات مُميزة للميكروبات مختلفة عن بعضهم يمتازون عن اولئك المتشابهين بجيناتهم بقدرتهم على تمرير جيناتهم وإنتاج أفراد جدد. (فيعاني النوع الثاني من الازواج من اجهاضات تلقائية, فيكون التباعد في السن بين أطفالهم كبيرا مما يشير الى إنهم قد تعرضوا للعديد من حالات الاجهاض).
بالتأكيد إن بإمكان تركيبة الجينات المُعرّفة للميكروبات للبشر ان تؤثر على خياراتنا للشركاء فقط في حالة استطاعتنا التمييز بأي شكل من الاشكال بين الناس الذين يحملون جينات متماثلة مُعرّفة للميكروبات واولئك الذين يحملون الجينات الغريبة المُعرفة للميكروبات. وعلى الرغم من ان معظم البشر غير واعين بهذا, لكن تَبيَن ان بإمكاننا فعله . فقد أظهرت دراسات عديدة إن البشر ,كما الحيوانات الاخرى, يستطيعون الاحساس بمكونات الجينات المُميزة للميكروبات للآخرين من خلال الرائحة.(ما تزال كيفية تأثير الجينات المُميزة للميكروبات غير واضحة على وجه التحديد. فهي ربما تدور حول كيفية ارتباط البروتينات المُشفرة بواسطة الجينات بالخلايا أوكيفية تأثيرها على الاحياء البكتيرية التي تصنع الروائح في الجسم). وعلى اساس هذه الروائح تعتمد تفضيلات الناس. ففي أحد الدراسات طُلِب من المشاركين والذين تم تعريف جيناتهم المُميزة للميكروبات أن يرتدوا قمصانا قطنية لليلتين على التوالي (مع الامتناع عن استخدام عطور الصابون او عطور المنتجات الاخرى وكذلك الامتناع عن تناول الأطعمة التي تنتج الروائح القوية). ثم وُضعت القمصان في جِرار غير معنونة وبعدها قُدمت لمجموعة الخاضعين للاختبار لكي يشمونها. ما حصل ان كل هؤلاء فضلوا رائحة القمصان التي ارتداها الاشخاص الذين يحملون الجينات المُميزة للميكروبات المختلفة عن تلك التي يحملونها.
وهذا بالتأكيد لا يعني ان اختيارنا لشركائنا يعتمد كليا او جزئيا على رائحة اجسامهم. لكن من المحتمل جدا اننا اضطررنا مرة لان نختارهم على هذا الأساس خلال ماضينا المُبتلى بالأوبئة. فلغاية هذا الوقت مازلنا نستطيع معرفة الفرق والشعور بآثار الرغبة المتبقية المبنية عليه.
وقد مارست الميكروبات تأثيرا قويا علينا خلال اقامتها داخل اجسادنا وقد بدأ العلماء بكشف أسرار الميكروبات التي تعيش داخل وعلى اجسامنا والمعروفة بإسم المايكروبيوم . ولغاية اليوم وجد العلماء ان تلك الميكروبات تُعتبر بمثابة مُحركي الدمى الخفيين وان العمليات المهمة كعملية تطور الدماغ في الثدييات والجنس في الحشرات والمناعة في الفئران تُحفز فقط بحضور ميكروبات معينة. وإن الميكروبات التي تعيش في أحشاء الانسان لها ذلك التأثير الخطر في تطوير السمنة والاكتئاب والقلق. وكذلك قد تلعب دورا في السيطرة على سلوكنا. وقد تَبين من خلال التجربة المختبرية إن تخليص الفئران من ميكروباتها قد غيًر من سلوكها بشكل واضح وأدى ايضا لتقليل استجاباتها للقلق وتخفيض قدراتها لتأدية المهام التي تتطلب ذاكرة, كما وأدى تعريض احد الفئران لميكروبات فأر اخر الى تقليد الاول للثاني في السلوك.
كل هذه الادلة تقول ان إحساسنا المتبجح بالفردانية هو محض وهم. فالحيوانات،وكما تقول عالمة الاحياء التطورية نيكول كنغ، لم تكن ابدا كائنات وحيدة. إن كان في الأمر مضرتنا أو فائدتنا فنحن ’’البيئات المضيفة للميكروبات.‘‘ فالميكروبات تُشكلنا سواء أكانت داخل اجسادنا أو خارجها.
الميكروبات والاوبئة ليست من نتاجات الحياة العصرية فقط. فهم جزء من تراثنا البيولوجي. المأزق الذي نجد انفسنا فيه اليوم ,حيث نشهد بداية وباء جديد, هو حدث استثنائي و نادر, فهو جزء من مئات ملايين السنين من التطور. قد هزمنا عالميا حفنة قليلة من الميكروبات لكننا هوجمنا من قبل مئات الميكروبات الجديدة التي تهددنا بالأوبئة. وفي هذه الاثناء تستمر الميكروبات القديمة بإنتزاع أماكنها في اجسامنا واغتصاب ارطال من لحومنا البشرية: فتقريبا نصف الوفيات لدى البشر تحت عمر الخامسة والاربعين تكون بسبب الامراض المعدية.
ومع ذلك فان آفاقنا لم تكن يوما افضل حالا. فبإمكانك تأمل التحديات الوجودية الثلاث التي واجهت الصنف البشري, وأحدها هو الميكروبات. ولكننا سجلنا انتصارًا شبه كاملاً على التحديين الاخريين وهما الحيوانات المفترسة والمناخ القاسي. فقد استطعنا تدريجيا تحويل الطقس القاسي ليناسب احتياجنا ويحقق راحتنا منذ ان تمكن اسلافنا من تطويع النار منذ ملايين السنين, طاردين عتمة الليل و البرد, الأمر الذي تفعله اليوم اجهزة التدفئة المركزية والنوافذ المحكمة الاغلاق. لقد تغلبنا على الكائنات المفترسة عندما خرجنا من افريقيا قبل مائة الف عام وانتشرنا في قارات العالم, الأمر الذي ساق كل الثدييات الاخرى والحيوانات المفترسة التي تتغذى عليها الى الانقراض. لقد خَلًصنا مواطننا الطبيعية من الإسود الامريكية والصناجة او المستادون والسنور ذو الاسنان السيفية والكائنات الشبيهة بالإنسان كالنياندرتال والتي من المحتمل ان تكون قد إفترست البشر. المفترسات الوحيد الذي تبقت حتى الان هم البشر الاخرون.
لا أقصد مناقشة القول بأن الطريقة التي اخضعنا بها البيئة والأجناس الاخرى كانت بلا تبعات سلبية. لكنها تظهر مدى قدرات الانسان عندما يُعمل ذكائه ومهاراته في صنع الادوات المناسبة للأعمال. ولأن كِلا هذين التحديين الوجوديين كانا واضحين أمامنا على مدى الاف السنين فإننا استطعنا ان نستخدم قوتنا للتغلب عليهم – فحتى اسلافنا القدماء استطاعوا تمييز القوة المدمرة للعواصف والخطر الذي تشكله لهم الحيوانات المفترسة.
في المقابل لقد كنا غير عارفين لمدة طويلة من تاريخنا بدور الميكروبات في حيواتنا. فلقد طورنا تقنية الكشف عن الميكروبات فقط قبل اقل من قرنين من الزمن. اليوم لقد بدأنا توا بفهم حجم عالمهم السري. وقد يبدو, مع تطور المضادات الحيوية والادوية المدهشة في منتصف القرن العشرين, أننا تغلبنا على خصومنا القدامى. لكن الرؤية من خلال السياق التاريخي الاشمل تظهرنا كمتسلقين على سفح تلة ولكننا موهومين بوصولنا للقمة. وها قد بدأ توا مشروع تطبيق ذكائنا ومهاراتنا في صنع الادوات لتحدي الميكروبات.
المصدر: هنا