كتبها لموقع “نيوستيتسمان”: هوغو دروتشون
منشور بتاريخ:29\8\2018
ترجمة: ياسر منهل
تصميم: أحمد الوائليّ
عندما سُئِل “ستيفن بينكر”، وهو أستاذ علم النفس الأبرز في جامعة هارفرد، في إحدى المقابلات مؤخراً، عن الفيلسوف الذي لاقى تقديراً وقبولاً أكثر من غيره، كانت إجابة ”بينكر”: “فريدريك نيتشه”. وقد برر اختياره لنيتشه بالقول: “من السهل أن تلحظ أن تخرصاته الاجتماعية المعتلة قد ألهمت الكثير من الحركات العنصرية حول العالم في القرنين العشرين والواحد والعشرين بما في ذلك الحركات النازية والفاشية والبلشفية وحركة ايان راند الليبرالية المتطرفة واليمين الامريكي البديل والحركات النازية الجديدة في يومنا هذا.”
ويرى بينكر أن الفيلسوف البريطاني “برتراند رسل” قد فهم نيتشه بصورة صحيحة في كتابه الذي نشره في عام 1945 تاريخ الفلسفة الغربية، إذ يرى “رسل” بأن نيتشه كان يتمنى لو أنه عاش في أثينا في عهد بيركلس أو فلورنسا في عهد عائلة ميديتشي. ولكن “بينكر” له رأي آخر فيما يراه “رسل”، فبينكر يعتقد بأن حياة الإنسان، على كل الأصعدة، قد أصبحت اليوم أفضل وأكثر صحة وأمناً وسعادة وأكثر سلاماً وإثارة وازدهار وقد عزز “بينكر” رأيهُ هذا بأكثر من 75 مخططاً بيانياً. وقد ذكر” بينكر” في نهاية كتابه (التنوير الآن) قائلاً: “لو أردنا أن نذكر مفكراً يمثل نقيض الإنسانية في كل ما يطرحه في كتابه فإننا من دون شك سنختار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه”. لذا فإن “بينكر” يوصي بضرورة “التخلي عن نيتشه”.
فيلسوف آخر يعزو سبب أمراض العالم اليوم لفلسفة ما بعد الحداثة التي ارتبطت بنتيشه، إنه الفيلسوف الكندي “جوردن بيترسون” الذي أصبح الكاتب المفضل لدى اليمين البديل. يقدم “بيترسون” نفسه كمدافع عن النزعة التقليدية أو الليبرالية التقليدية. ومن خلال سلسلة محاضراته التي يقدمها على الإنترنت، والتي جلبت الاهتمام العالمي لآرائه، هاجم فيها “بيترسون” القانون الكندي الذي يسعى لفرض استخدام ضمائر جندرية محايدة (لا تفيد التذكير ولا التأنيث). ويربط زميل بينكر في جامعة تورنتو “رونالد بينر” في كتابه “عقول خطرة” بصورة واضحة بين نيتشه واليمين البديل. فيرى “بينر” بأن رفض نيتشه للتنوير قد أثر في العقائد السياسية للجناح اليميني بدأ من “ريتشارد سبينسر” وحتى “ستيف بانون”.
من فيلسوف معادي للتنوير إلى فيلسوف ملهم لليمين البديل: لماذا أصبح نيتشه متداولاً في أدبياتهم وكتبهم السيئة مجدداً؟
لمعرفة سبب عدم فهم نيتشه بالشكل الصحيح علينا أن نبدأ بكتاب “رسل” (تاريخ الفلسفة الغربية)، إذ كتب رسل كتابه أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان أستاذاً في جامعة (براين ماور) قرب فيلادلفيا. ورغم أن الكتاب قد لاقى إقبالاً كبيراً لأسلوبه الأدبي الرائع ولكونه أسهم في نيل “رسل” لجائزة نوبل للآداب في 1950، لكن الفصل الذي يتناول فيه “رسل” سيرة معظم الفلاسفة بما فيهم نيتشه قد اُهمل من قبل المختصين.
يعد “رسل” من أشهر دعاة السلام ومعارضي الحرب رغم أنه وافق على القبول بأهون الشرين (الحرب) لتجنب سيطرة هتلر على اوروبا، وتمثل كتاباته في التاريخ إجاباته الشخصية على أحداث التاريخ. لذا فإن جزءاً مما كان يحاول “رسل” القيام به هو السؤال حول سبب صعود هتلر، وقد كانت الإجابة هي: “نيتشه”. لقد أعلن “رسل” بأن الحرب العالمية الثانية كانت حرب نيتشه. وبظل وجود “دونالد ترامب” في البيت الأبيض واليمين البديل في الشوارع: يتساءل العديد من المراقبين إذا ما قد نجحت الفاشية في الوصول إلى أميركا. وهكذا فإنه ليس من الغريب أن نقارن حقبة الثلاثينات باللحظة الحالية التي نعيشها في العصر الحالي حينما أعلن موسوليني بأنه قد تأثر بطروحات نيتشه وقدم هتلر نفسه باعتباره “الإنسان المتفوق”، وفق الرؤية النيتشويه، الذي يقود عرقه الآري المتفوق نحو النصر.
توفي نيتشه عام 1900، بعد معاناته من انهيار عقلي في 1889 ويذكر أنه قد تعرض لانهيار عصبي عندما كان في منطقة تورين في حادثة مشهورة عندما رأى حصاناً يتعرض للضرب من قبل سيده فهرع نيتشه واحتضن الحصان ليحميه من سيده. في عصره لم يكن موسوليني ولا هتلر هما الرمز السياسي اللامع بل كان “بسمارك” الذي لم تكن سياسته نازية أو فاشية بل كانت تتلخص “بسياسة القوة” من أجل الوحدة الألمانية وتوازن القوى الأوربية.
ولد نيتشه في عام 1844 في قرية (روخن) الصغيرة في إقليم سكسونيا الألماني. وكان والده قس لوثري توفي في عمر مبكر نتيجة مرض ترقق الدماغ الذي قد يكون أصيب به في أواخر حياته. لقد كان نيتشه تلميذاً ذكياً حصل على كرسي في كلية علوم اللغة في عمر 24 سنة في جامعة بازل. لكنه قضى معظم حياته يعاني من لعنة المرض مما أجبره على الاستقالة من منصبه ليصبح بعد ذلك مفكراً تائهاً.
التقى نيتشه بأغلب عظماء عصره بما فيهم المؤلف الموسيقي “ريتشارد فاغنر”، الذي اختلف معه فيما بعد على خلفية موقف “فاغنر” المعارض لرابطة الشعوب الجرمانية ومعاداة السامية وتمجيد المسيحية. كما تعرف على المحللة النفسية “لوي اندرياس سالوم” التي أصبحت فيما بعد عشيقة وملهمة “سيجموند فرويد”، والذي أحبها حاله حال الكثير ممن وقعوا في غرامها، وقد تقدم نيتشه مرتين على الأقل لخطبتها لكنها تركته وهربت مع صديقه “بول ريي”. تطوع نيتشه كضابط خيالة في الحرب الفرنسية- البروسية عام 1870-71، وهي الحرب الأخيرة التي خاضها بسمارك لتوحيد ألمانيا في الرايخ الألماني الأول تحت حكم بروسيا.
لقد حاول كل من موسوليني والنازية توظيف نيتشه لشرعنة نظرتهم للعالم.
مهما تحدثنا عن تأثير نيتشه على ثقافة القرن العشرين فلن تكون مبالغة. لقد أثر أسلوبه الأدبي في “ألبير كامو” و”اندريه جيدا” و”دي اتش لورنس” و”جاك لندن” و”توماس مان” و”يوكو ميشيما” و”يوجين اونيل” و”وليم بتلر يتس” و”ويندام لويس” و”جورج بيرنارد شو”، أما فلسفته فقد أثرت في “مارتن هيديجر” و”جان بول سارتر” و”جاك دريدا” و”ميشيل فوكو” كما أنه يعتبر الأب الشرعي للوجودية والنظرية الخطرة وما بعد البنائية والتفكيكية وما بعد الحداثة. تتنوع كتب نيتشه من دراسة المسرحية الاغريقية القديمة في كتاب “مولد التراجيديا” (1872) مروراً بكتاباته الفلسفية الشعرية في كتابه الشهير “هكذا تكلم زرادشت” (1883) إلى هجومه على المسيحية في كتاب “عدو المسيح” (1888). ولايزال نيتشه اليوم يذكر بسبب كتابه الجدلي “جينيالوجيا الأخلاق” الذي كتبه عام 1887 والذي تناول فيه ومن خلال ثلاث مقالات فكرة أن التاريخ بأكمله عبارة عن صراع بين مجموعتين من القيم الأخلاقية، الأولى: أخلاق السادة والنبلاء والتي تحض على القوة والجمال والشجاعة والنجاح، أما القيم الثانية فهي أخلاق العبيد والتي تحض على العطف والشفقة والتسامح والتي يعزوها بشدة للديانة المسيحية.
بيد أن نيتشه لم يكتفي بتقديم هذا التصنيف الأخلاقي فحسب، لا، بل إنه استخدم نظرياته وأفكاره لتحليل الآراء السياسية السائدة في زمانه. لقد كان هدف “بسمارك” توحيد ألمانيا لكي تصبح قوة عظمى قادرة على حجز كرسي على طاولة الدول العظمى آنذاك (فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا) الذين كانوا يتقاسمون السيطرة على العالم. بيد أن نيتشه رفض السياسات القائمة على أسس التعصب القومي ورهاب الأجانب وكراهيتهم والتمسك الأعمى بالتقاليد وتجزئة اوروبا، إذ كان يعتبر ذلك من أخلاق العبيد التي وضحها في كتابه جينولوجيا الأخلاق. وعوضاً عن ذلك الطرح، قدم نيتشه نموذجه لأخلاق السادة والتي يسميها “سياسة العظمة” والتي تهدف لتوحيد القارة الاوربية وأن تكون تحت قيادة نخبوية جديدة من مختلف القوميات الاوربية. بحيث يكون هدف هذه النخبة غير مقتصر على قيادة اوروبا فيما أسماه “روديارد كيبلنغ” لاحقاً بلعبة العظماء – ويقصد فيها الصراع الدائر بين بريطانيا وروسيا على أفغانستان وشمال الهند (نجمة التاج البريطاني)- بل أن تقوم هذه السياسة على دور أهم يتمثل في خلق ثقافة اوربية حقيقية وراقية وجديدة كلياً.
كيف أصبح نيتشه فيلسوف الرايخ الثالث؟ يعود السبب في ذلك إلى “ألفريد بيوملر” المعروف بفيلسوف البلاط النازي الذي حول نيتشه إلى “نبوءة هتلر” حسب وصف الكاتب الألماني “توماس مان”. إذ أعاد تقديم نيتشه على أنه فيلسوف الدولة الألمانية وفيلسوف العرق الألماني النقي. وكان “بيولمر” قد لقي المساعدة والتشجيع من شقيقة نيتشه “اليزابيث” التي نشرت مجموعة من ملاحظات نيتشه الأخيرة في كتاب أسمته “إرادة القوة.”
كان نيتشه قريباً جداً من شقيقته التي تصغره بسنتين في شبابه، لكن علاقتهما ساءت عندما حاولت اخته التدخل في علاقته الفاشلة بـ”لوي اندرياس سالوم” التي اعتبرتها علاقة غير أخلاقية، بيد أن الخلاف الأكبر حصل بينهما عندما أقدمت “اليزابيث” على الزواج بـ”بيرنارد فورستر” المعادي الشرس للسامية الذي حاول أن ينشئ مستعمرة “آريّة” نقية أسماها (جيرمانيا الجديدة) في الباراغواي. وفي رسالة أرسلها نيتشه إلى اخته بيّن فيها رفضه لفورستر لكونه من الغوغاء المعادين للسامية ولم يتحدث نيتشه بعد ذلك مع اخته. وكان نيتشه يعتبر نفسه مناهضاً لمعاداة السامية حتى وفاته.
لقد كان مشروع المستوطنة الألمانية في الباراغواي مثالاً للفشل إذ أقدم فورستر على الانتحار، أما اليزابيث فقد عادت إلى ألمانيا في أوائل تسعينات القرن التاسع عشر مثقلة بالديون. بيد أنها وجدت فرصة جيدة في استغلال الشهرة التي نالها أخيها مؤخراً، خصوصاً بعد حادثة الانهيار العقلي التي حصلت له.
بدأ الناقد الأدبي الدنماركي “جورج براندس”، اليهودي، بإلقاء محاضرات حول نيتشه في كوبنهاغن. ونصبت اليزابيث نفسها كوصية لتراث أخيها الأدبي، لذلك سعت اليزابيث لنشر مجموعة من ملاحظات أخيها الأخيرة في كتاب نقحته وقدمته على أنه رائعة نيتشه الأدبية والتي زعمت أن أخيها كان في صدد إكمالها رغم أن نيتشه قد ذكر بأن آخر كتاب له كان “عدو المسيح”. لقد ادعى النازيون أن نيتشه هو فيلسوفهم الخاص وقد زار هتلر أرشيفه الذي انشأته اخته في مدينة (فايمر) وقد أهدت لهتلر عصا المشي التي كان يستخدمها أخيها نيتشه.
ورغم أننا ومنذ تلك الحقبة لا نتذكر سوى ما يسمى بنيتشه النازي، إلا أن “بيوملر” لم يكن الصوت الوحيد الذي يتحدث عن نيتشة. فعلى سبيل المثال كتب العالم النفسي والفيلسوف الوجودي “كارل جاسبر” ما يعتبره الكثير، أول دراسة أكاديمية جادة حول نيتشه في عام 1936 وقد كشف عن نيته في جمع أفكار نيتشه وعرضها للعالم لتبيان زيف ما يدعيه الاشتراكيين القوميين من أن نيتشه هو فيلسوفهم الذي يستلهمون أفكاره.
لقد بدأ هذا الصراع بين نيتشه الشرير ونيتشه الصالح منذ ذلك الوقت وحتى الآن. وقد تم انقاذ نيتشه مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية على يد الفيلسوف والمترجم الألماني المغترب “والتر كوفمان” والذي بين في دراسته الكلاسيكية (1950) بأن كتاب “إرادة القوة” نُسِب زيفاً لنيتشه.
لقد كان نيتشه الذي خرج لنا من هذه الرؤية التفسيرية مشرقاً وسعيداً وذي ميول أدبية أكثر منها فلسفية ومرتبطاً بالشعر والأدب أكثر من أي اهتمامات فكرية أو فلسفية، مهتماً بالأناقة الشخصية وذا نزعة فردية حسبما صور في فيلم (اشراقة ابدية لعقل نظيف). بيد أن نيتشه الشرير لم يبعد كثيراً عن هذا، فقد ظهر اسمه مجدداً في امريكا فيما عرف بـ” الحرب الثقافية” نتيجة لهجوم الفيلسوف المحافظ “الن بلوم” على النسبية الأخلاقية و “العدمية” التي سيطرت على الجامعات الامريكية، حسبما كان مفترض. لقد قرأ بلوم نيتشه وقد ثمن اسلوبه الثقافي النخبوي لكنه شجب واستنكر كيف أن افكاره قد وضفت لخدمة سياسة الهوية الليبرالية التي يمقتها بلوم.
وللمفارقة فإن مصطلح صراع الثقافات كان قد اشتق من مصطلح بسمارك الصراع الثقافي ضد الكاثوليك الألمان حيث كان قلقاً من أنهم سوف لن يكونوا موالين للرايخ البروتستانتي الجديد. احتقر نيتشه سياسات بسمارك هذه واعتبرها صراعاً داخل المسيحية وكان يتمنى انتصار الكنيسة الكاثوليكية والدولة الالمانية على بعض، لأنه كان يعتبر أن الصراع الحقيقي يجب أن يكون بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة، وليس هذا الصراع المنحصر بين أخلاقيات العبيد.
وسواء اعتمدنا على نيتشه الصالح أو نيتشه الشرير، فإن نيتشه يخبرنا عن أنفسنا وزماننا أكثر مما يخبرنا عن نفسه: فعندما تكون الأمور طيبة نستذكر نيتشه ذي النزعة الفردية وصاحب الابداع الذاتي، وعندما تكون سيئة نستذكر نيتشه عراب الفاشية.
بيد أن هنالك شيء أعمق بكثير له علاقة بزعم نيتشه الشهير بـ”موت الإله”.
إن ما يعنيه نيتشه بموت الاله هو أن المجتمعات المعاصرة لم تعد تمتلك نقطة مرجعية أخلاقية مشتركة توجه سلوكها، وهو الدور الذي كانت تلعبه المسيحية. وجاء هذا بسبب التنوير الذي يدافع عنه “ستيفن بينكر” والذي لم يكتفي بسحق الإيمان بالإله المسيحي بل سحق كل المعتقدات الأخرى. إن ما حققه التنوير هو انتصار العقلية العلمية على الوحي المقدس. فلم يعد لدينا منظومة أخلاقية مشتركة ننظم حياتنا عليها، وعوضاٌ عن ذلك أصبحنا نحتكم للنسبية الأخلاقية أو “العدمية”؛ التي تعتقد بعدم وجود قيمة للحياة وبعدم وجود هدف أخلاقي. اذ تؤمن العدمية بأنه “لا يوجد شيء حقيقي وكل شيء نسبي” حسب مقولة نيتشه الذي قد يكون قد استلهمها بدوره من أكثر الروائيين المفضلين لديه، “ديستويفسكي”، الذي يعتبره نيتشه أحد أعظم علماء النفس في عصره.
غالباً ما يُعد نيتشه من الفلاسفة النفسيين الذين نجحوا في تشخيص أمراض عصرنا، إذ أشاد فرويد بنيتشه واعتبره “أكثر من يمتلك معرفة عميقة بنفسه، بصورة لم يسبقه فيها أحد قبله”. كما أن هذه العدمية- المتمثلة بالشعور بالضياع في هذا العالم المعاصر- تلمس شيئاً عميقاً في روح عصرنا هذا الذي شهد عدة أحداث نذكر منها على سبيل الحصر -انتخاب ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي- وهي أحداث يراها العديد منا عصية على الفهم. إذ بفقداننا لمرساتنا الفكرية أصبحنا نبحر بحثاً عن مرساة جديدة لكن تأبى البحار إلا أن تفرقنا.
يُعد “ستيفن بينكر” و”جوردن بيترسون” أخصائيين نفسيين، لذا فإنه ليس من المستغرب أن يلعب نيتشه، الفيلسوف النفساني ومشخص العدمية في العصر الحديث، هكذا دور مركزي في تفكيرهم. فكلاهما يتفق على أن الخلل في عالمنا يكمن في العدمية وكلاهما يسعى لاستعادة النظام ألى عالمنا. إذ أن عنوان كتاب “بيترسون” هو “اثنتا عشر قاعدة في الحياة لعلاج الفوضى”. ويعتقد “بينكر” أن الحل يكمن في العودة إلى قيم ونظريات عصر النهضة، معززة بالعلم الحديث لكي نتمكن من القفز وتجاوز مرحلة نيتشه وكأنها مرحلة لم تكن. كما يعتقد “بيترسون” أن العالم منقسم بين الفوضى والنظام، ولعلاج ذلك يرى “بيترسون” وجوب سيطرة النظام “الذكوري” على الفوضى “الأنثوية”- على أن تسود بعد ذلك قواعد معينة (قواعده الاثني عشر).
إن مفهوم موت الاله طرحه نيتشه على لسان رجل مجنون خرج مسرعاً إلى السوق حاملاً مصباح مضاء في رابعة النهار وهو يسأل: أين الله؟لاقى هذا الرجل الكثير من التهكم من الناس الذين كانوا مجتمعين في السوق والذين هم أنفسهم غير مؤمنين بالإله.
صاح الرجل منادياً: “أين الإله؟ سأخبركم انا أينه. لقد مات الإله ونحن من قتله، انتم وانا”.
تلقى الناس كلامه هذا بالذهول والصمت، ثم امتعض الرجل وقام أخيراً بتحطيم مصباحه قائلاً في نفسه: “لقد جئت مبكراً كثيراً، فزماني لم يأتِ بعد. إن هذا الحدث الجلل لايزال في الطريق ولم يصل بعد، لا يزال مسافراً ولم يصل بعد لأسماع الانسان. فالبرق والرعد يحتاج لوقت، والأفعال تحتاج لفترة من الزمن بعد وقوعها قبل أن يُمكن لها أن تُسمع او تُرى”.
إن الفكرة التي أراد أن يوصلها نيتشه في هذا المقطع الشهير من كتابه “علم المرح” (1882) هو أنه برغم “موت الاله” إلا أن الملحدين والذين لم يعودوا يؤمنون به (الاله) لا يزالون يعيشون وكأنه موجود. وهذا ما يسميه نيتشه العيش “في ظل الاله”. إن التحدي الذي يُوَجِههُ نيتشه من خلال حكاية الرجل المجنون إلى غير المؤمنين هو أن لا يتظاهروا بأن الاله غير ميت ولا أن يغرقوا في العدمية، بل عليهم التحلي بالشجاعة ليخلقوا قيماً جديدة خاصة بهم. ويتساءل الرجل المجنون إن كُنا قتلنا الاله: “فهل يتوجب علينا نحن أنفسنا أن لا نصبح أرباباً لنبدو ببساطة جديرين بما فعلناه؟”
ومن وجه نظر نيتشويه، فإن ما يقترحه كل من “بينكر” و”بيترسون” هو أن نبقى في ظلال الله. إذ يسعى “بينكر” لتنصيب إله جديد مستوحى من عصر التنوير يحمل أفكار ذلك العصر وقيمه. أما بيترسون فإنه، في شرحه لقواعد الحياة الاثني عشر، يستلهم ويقتبس، بكل حُريه، من أساطير وأديان الماضي إذ يصفها بأنها قصص أخلاقية جوهرية. لكن حسب ما يقوله نيتشه على لسان زرادشت، سيء السمعة، بأنه ليس اله المسيحية لوحده قد مات، بل يُصرح بالقول: “ليست المُثل الأخلاقية المسيحية لوحدها قد أصبحت بلا قيمة، بل إن كافة أنواع المثل الأخلاقية قد أصبحت كذلك.”
يقترب “بيترسون” من نيتشه ليدافع عما يدافع عنه نيتشه، إذ تناول مطولاً مفهوم موت الاله في قواعده الاثني عشر، لكنه يتراجع عن الجحيم. ربما لأنه لم يرغب بما رآه هناك “أنت تحدق بالجحيم والجحيم تحدق بك أيضاً” كما يقول نيتشه. فبيترسون يوافق على أننا نعيش في حالة عدمية لكنه يرفض فكرة ورأي نيتشه القائلة بأنه يجب علينا أن نخلق قيمنا الخاصة بأنفسنا، إذ يقول بيترسون: “ليس في مقدورنا أن نخترع قيمنا الخاصة لكوننا ببساطة لا نستطيع أن نفرض ما نؤمن به على أرواحنا”. فنحن نمتلك طبيعة انسانية لم نكتشفها بعد، لذا نحتاج قواعد لتسيير حياتنا كي لا تعم الفوضى ونفقد النظام.
لم يكن في وسع نيتشه عمل شيء ضد القيود التي تواجه من يحاول التغيير، ولم يكن يعتقد بأنه سيكون من اليسير للجميع أن يخلقوا قيمهم الخاصة، بل إنه كان فرحاً تماماً لكون أغلب الناس لا يزالون يعيشون حياتهم وكأن الإله لايزال حياً. لكن هذا لا يعني بأنه كان يعتقد بأن خلق قيم جديدة، كما رأينا على لسان الرجل المجنون، سيكون أمراً مستحيلاً. بل سيكون أمراً ممكناً لغير المؤمنين من الذين يمتلكون الشجاعة لبلورة وصياغة قيمهم الخاصة.
لذا يعد “باينر” محقاً تماماً عندما ذكر في كتابه عقول خطرة: “أراد نيتشه الابداع والآفاق المفتوحة للفلاسفة الأبطال وأراد أفقاً مسدوداً وضيقاً لبقية الناس”. ويعد باينر محقاً في قوله هذا باستثناء أن نيتشه اعتقد أن الأفق المغلق مفروض ذاتياً (أي بمعنى مفروض على القطيع الذي يتبنى أخلاقيات العبيد من قبل أنفسهم). هكذا رؤية سياسية لا تجعل من نيتشه نازياً على الفور. ففي الحقيقة هنالك عنصر من عناصر التعددية في تفكير نيتشه، فهو يوافق بكل رحابة صدر على أن أغلب الحضارات تتشكل من مزيج من قيم السادة والعبيد الاخلاقية ومن الأفضل لأغلب الناس أن يستمروا بالعيش وكأن الاله لايزال موجوداً، لكنه يعتقد أن أولئك الذين لا يؤمنون يجب أن يُمنحوا فرصةً لبلورة أساليب جديدة للوجود.
كلا اسلوبي الحياة وفقاً لرأي نيتشه لهما قيمهما الخاصة، أما رغبته في إيجاد توازن بين كلا القيمتين يفتح الباب لما نعرفه اليوم بالليبرالية السياسية، بمعنى سياسة تسعى للتوفيق بين كلا التوجهين ومطالبهما واعطاء كل منهما حقه.
إن ربط العدمية بنيتشه يعد أمراً صحيحاً، لكن إلقاء اللوم على نيتشه لاختراعه العدمية فهذا أشبه بقتل حامل الرسالة وليس كاتبها! فنيتشه شَخَص مجيء العدمية لكنه لم يؤيدها. فكل جهوده كانت تنصب حول إيجاد طريق للخروج منها. أما ربط الفاشية بنيتشة كما يزعم بينكر وبيترسون فيعد كذلك أمراً خاطئاً، فاليمين البديل سيحاول التمسك بهذه الاتهامات كوسيلة لإعطاء حركتهم الثقل الفكري الذي تفتقده، وهو ما يشبه كثيراً ما سعى له النازيون وموسوليني في محاولة نسب انفسهم لفلسفة نيتشه لإضفاء الشرعية على أنفسهم.
وهنا نقول ان كان نيتشه مُشَخِصا وليس مُروجاً ومبشراً بالعدمية إذن فإن الأدوات المعرفية التي قد شحذها لنفسه لإعطاء هذا العالم والحياة معنى عندئذ قد يكون هذا أفضل منهاج لفهم نيتشه وتقبله. ويبقى أن نقول بأن نيتشه كان فيلسوف السخط والتمرد وهو الشعور الذي يحرك أغلب السياسات الشعبوية اليوم.
ان مفهوم نيتشه لأخلاق العبيد والذي تجلى في ظهور النزعات القومية وكراهية الاجانب وتقسيم اوروبا يبدو بالفعل وسيلة جيدة لوصف الكثير من حركات اليمين المتطرف في الوقت الراهن. وقد أنهى بيرتراند رسل فصله المخصص عن نيتشه في كتابه الشهير تاريخ الفلسفة الغربية بالقول: ان اتباع نيتشه قد اخذوا فرصتهم ونرجو انهم قد وصلوا بسرعة الى نهاية مسعاهم. وهو أمر غير مرجح على الأقل لكون الجدل لا يزال قائماً حول مقولته الشهيرة “موت الاله.” ان التخلص من التفسير السلبي لأفكار وفلسفة نيتشة لن يكون عن طريق بلورة نيتشه الخَّير او نيتشه السيء بل من خلال المواجهة المباشرة لما كان يحاول إيصاله لنا.
ما الذي كان نيتشه يحاول اخبارنا به؟ بالنسبة لنيتشه فإن أعظم درس كان يحاول ايصاله لنا يكمن في فكرة العودة الابدية. وفي فقرة شهيرة أخرى من كتابه “العلم المرح” يتساءل: “ماذا لو تسلل الشيطان ذات يوم الى نفسك في أكثر أوقات وحدتك وانعزالك واخبرك بأن هذه الحياة التي تعيشها الان ستعاد ويتوجب عليك عيشها مرة اخرى واخرى الى ما لا نهاية”، فهل ستقوم برمي نفسك في الارض حزناً وستعض على نواجذك من الحزن وتلعن الشيطان الذي يوسوس بهذا؟ او تخيل نفسك وانت تجيبه: “انت الهي وهذا الكلام من اعظم ما سمعت انه الوحي المنزل”. بيد ان الكلمة المفتاحية في هذا الجملة هي “ماذا لو” فنيتشه لم يدعي بأن العود الأبدي حقيقة (اي انك ستعيش كل لحظة وكل موقف من حياتك عدد لا منتهي من المرات” لكنه يسأل كيف ستتصرف ان كان ذلك حقيقة. هل انك ستقول “اللعنة على الشيطان” ام انك ستقول: “سبحانك يا رب ما هذا الا وحي يوحى؟”
ان اغلب الناس على الارجح ستختار الخيار الاول لانهم بكل تأكيد لا يرغبون ان يعيشوا ويمروا مجدداً بلحظات معينة من حياتهم الماضية، وفي نفس الوقت يرغبون في الرجوع للماضي لتغيير امور اقدموا على فعلها ولكنهم ندموا عليها. بيد ان ما يحاول نيتشه تخليصنا منه هو الشعور بالنقمة والسخط تجاه الماضي لكي نكون أكثر استعداد لمواجهه المستقبل، اذ يقول: “إن لم نرتكب اخطاءً في الماضي كيف يمكننا التنبه لعدم ارتكاب نفس الأخطاء في المستقبل؟” لذا فالسؤال الذي يجب ان نسأل انفسنا هو: ما هو العمل المستقبلي الذي سيبرر اخطاء الماضي؟ ما الذي يمكن ان افعله في المستقبل كي اسامح نفسي على امور ندمت على فعلها في الماضي؟
ان هذا يبين لنا سبب كون فكرة العود الابدي لا تملك رؤية ماضوية فقط بل انها تملك بعد مستقبلي ايضا، فنرى نيتشه يقول “يريد احدهم ان لا يتغير شيء لا في الماضي ولا في المستقبل ولا في كل الوجود” لذا فان تجاوز سخط ونقمة الانسان على ماضيه تعد الطريقة الوحيدة لتجاوز العدمية ولإعطاء الحياة معنى من جديد.
مع ذلك فإن كثير من الناس سوف لن يتجاوزوا الاختبار: لكن نيتشه كان واثقاً بأن كثير من الناس، مالم يكن اغلبهم، سيستمرون بعيش حياتهم كما كانوا يعيشوها في السابق تماماً. ولكن بالنسبة لأولئك الذين يرغبون بالتغير فان فكرة العود الابدي قد تقدم أساساً جديداً لقيم وأخلاقيات جديدة. اطإن ما كان يحاول نيتشه فعله حسب ما يرى فيلسوف الاخلاق “بيرنارد وليامس” في كتابه “الاخلاق وحدود الفلسفة” 1985، كان استبدال القيم الاخلاقية المطلقة والعقائدية والمؤسساتية والناشئة من الاعلى الى الأسفل بقيم أخلاقية ناشئة من الأسفل إلى الأعلى تكون فردانية وذاتية التكوين. فهل سينجح هذا؟ من يعلم؟ لكن الأمر يستحق المحاولة. هذا إن لم نبقَ مشغولين بفكرة نيتشه “السيء” مقابل نيتشه “الطيب.”
هوجو دروتشان. منظر سياسي في جامعة كامبريج ومؤلف كتاب “سياسة نيتشه العظيمة”.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا