كتبه لـ(ثري كواركس دايلي): بول براترمان
منشور بتاريخ: 19/2/2018
ترجمة: آلاء عبد الأمير
تدقيق: حسن مازن
تصميم: حسام زيدان
تمتد الطبقات الحديثة فوق القديمة، ما عدا في بعض الحالات حيث تكون أسفلها. وتتوافق التواريخ التي يتم الحصول عليها بإجراء القياس الإشعاعي رغم اختلاف الطرق المستخدمة، لكنها قد تختلف ببعض الحالات. أما الكواكب في مداراتها فهي تخضع لقوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، ولكل قاعدة شواذ.
وكما ورد عن (آيزاك اسيموف) أنه قال: “أكثر العبارات التي نسمعها إثارة، والتي تبشّر بالاكتشافات الجديدة في المجال العلمي، ليست (لقد وجدتها!) بل (هذا أمرٌ غريب!)”. إذ لا يوجد أمر يميّز بوضوح بين العقلية العلمية والعقائدية كالاستجابة للشذوذ. فبالنسبة للعقائدي يكون الشذوذ بهيئة “امسكتك”، كدليل على أن النظرية الموضوعة قيد التجربة هي خاطئة، ببساطة شديدة. وبالنسبة للعالِم فهي فرصة. فإذا كانت الفكرة تعمل بشكل عام، لكنها تواجه عقبات احياناً، إذن لابد أن شيئاً غير معتاد قد حدث ويجب البحث عنه. يرغب العقائدي بإغلاق الأسئلة، فيما يسعى العالِم لإبقائها مفتوحة. ولعل هذا هو السبب وراء وجود الخلقيين ممن ينكرون العلوم في اختصاصات تتسم بالحسم والانغلاق مثل القانون واللاهوت.
الصحيح والخاطئ في الدحض
يستحضر العقائديون باستمرار اسم (كارل بوبر) ويشيرون لعمله في ثلاثينات القرن الماضي. إذ وضع (بوبر) تركيزاً كبيراً على الدحض، واصفاً أي فكرة لا يمكن دحضها بأنها غير علمية. على سبيل المثال نظريات (فرويد) كانت غير علمية، لأن عدم اتفاق المريض مع نتائجه يمكن أن يُفَسّر على أنه نتيجة للكبت. وكذلك الماركسية، وصفها بغير العلمية لأن أي حدث يأتي خلاف ما توقعه (ماركس) كان اتباعه يفسرون الأمر على أنه نتيجة لعدم توفر الظروف التاريخية المناسبة. وعلى هذا المقياس فإن النظرية القائلة بأن التنوع الإحيائي يعود لتصميمٍ ذكيّ هي غير علمية ايضاً، لأن بمقدور معتنقيها القول أن أي خلل مظهريّ في هذا التصميم الذكي ما هو إلا انعكاس لعجزنا عن فهم دوافع المصمم، بل أن هذا ما يقولونه بالفعل.
لكن ماذا عن النظريات التي قد نتفق جميعاً على دقتّها العلمية، مثل نظرية الحركة الكوكبية، أو النظرية الذريّة، أو نظريات الجيولوجيا، أو التطور بالانتخاب الطبيعي؟ في هذه الحالة، يمكن دحض الفكرة الرائجة عن طريق الملاحظة، وهذا ما حصل عدة مرات. لكن ما الذي تم دحضه على وجه الدقّة؟
لا توجد نظرية قائمة بمفردها، كما أشار لهذا الأمر العالم الفيلسوف (بيير دويم) قبل أكثر من قرن مضى، وحين تفشل النظرية في الاختبار بالمشاهدة يصبح لدينا تفسيرين محتملين. قد يكون سبب الفشل في النظرية بحد ذاتها، أو في الافتراضات التي نجريها اثناء الاختبار. وبدقة أكبر، كما أوضح (إيمر لاكاتوس) في سبعينيات القرن الماضي، فإن كل تطبيقٍ لنظرية ما يتضمن فرضيات ثانوية، والتي قد تتراوح بين التكلف (قوانين الطبيعة لا تتغير) والبساطة (كان التلسكوب يعمل بشكلٍ صحيح). حينما يفشل افتراض نظريّ فليس بمقدورنا معرفة ما إذا كان الخلل في افتراضاتنا الثانوية أم في جوهر النظرية نفسها. في أحيانٍ كثيرة لا نكون واعين لافتراضاتنا هذه، وهذا أحد الأسباب التي توجب حاجتنا لفلاسفة علم.
ويذهب (لاكاتوس) الى أبعد من ذلك. لتبسيط واحد من أكثر البحوث دقة وتأثيراً في فلسفة العلم، كل نظرية علمية تثير الشذوذ عند مقارنتها بالملاحظات. لكن لا توجد ملاحظات صرفة، لأن الرصد لا يعني شيئاً بدون التأويل، وكلّ تأويل يتسق مع النظرية. هذا الأمر لا يُعد نقطة ضعف في العلوم القائمة على الملاحظة كما قد يبدو، بل هو قوة خفيّة. ويعني ذلك أننا حين نستخدم الملاحظة لاختبار النظرية، فنحن نقوم أيضاً باختبار الافتراضات الضمنية التي نستخدمها لتفسير النتائج. ولا يوجد نظرية علمية رُفضت ببساطة على أساس الشذوذ، بل قد تُرفض عند ظهور نظرية أكثر شمولاً منها، وتعتبر النظرية الجديدة أكثر شمولاً إذا كان باستطاعتها تفسير ما فسّرته النظرية القديمة وأكثر. ولهذا السبب يتوجب علينا أن لا نرى النظريات بمعزل عن بعضها، بل كجزء من سلسلة أو برنامج بحثيّ. أن تكون مخطئاً هو أمر محتم، لكن لا تدع ذلك الخطأ يُقلقك كثيراً، لأنه بمثابة فرصة، ووسيلة لتطوير العلم بأن يصبح هامش الخطأ قليل بشأن أمور كثيرة. وأنا اجد أن وجهة النظر هذه تحرّرية.
المثال الأول: ديناميكا النظام الشمسي
نأخذ حركة الكواكب في النظام الشمسي كأول مثال لنا. وفقاً لقوانين (كيبلر) وقوانين (نيوتن) في الحركة والجاذبية، فإن الكواكب يجب أن تتبع مداراً بيضوياً كنتيجة لقوى الجذب بين كل كوكب والشمس، بينما يكون تأثير هذه القوى بين كوكب وآخر طفيفاً. في أواسط القرن التاسع عشر أظهرت مشاهدات مؤكدة شذوذ مداريّ اثنين من الكواكب، هما عطارد وأورانوس. وبالإمكان تفسير الشذوذ في مدار أورانوس كنتيجة لتأثير قوى الجذب القادمة من كوكب آخر يمكننا تعيين موقعه بعمليات حسابية، الأمر الذي أدى لاكتشاف كوكب نبتون. لكن الشذوذ في مدار عطارد من ناحية أخرى لا يمكن تفسيره بنفس الطريقة، فبقي غير محلول حتى صياغة النظرية النسبية العامة لـ(اينشتاين). ففي حالة كوكب أورانوس، كان الشذوذ مرتبطاً بفرضيات ثانوية بأننا على معرفة بجميع كواكب المجموعة الشمسية، فتمت الإطاحة بهذه الفرضية. أما في حالة عطارد، فكان القصور في النظرية بحد ذاتها.
من الجدير بالذكر أن الشذوذ في مدار عطارد كان معروفاً لخمسين سنة قبل أن يقوم (اينشتاين) بتفسيره. خلال تلك الفترة، وبالرغم من هذا العجز الجليّ، لم يرفض الفيزيائيون نظرية (نيوتن) في حركة الكواكب. لأنها رغم كل شيء أصابت في التوقعات ضمن حدود الاختبارات التجريبية في باقي الحالات، ولذلك تم افتراض وجود سبب وجيه لتأثير الشذوذ على كوكب واحد. وهكذا رُبِط الانحراف عن قوانين (نيوتن) بانحناء الزمكان في حقل الجاذبية الشمسية، ومدار عطارد هو الحالة الوحيدة التي يكون فيها الحقل بالقوة الكافية لتتم ملاحظته بواسطة تقنيات مطلع القرن العشرين. لكن الدقة العالية تتطلب متطلبات أكبر. فلو كنت ترغب بتوجيه جرار بواسطة جهاز تحديد المواقع فيجب عليك الأخذ بعين الاعتبار نسبية الزمن بالنسبة للإشارة المرسلة لتتجنب السقوط في قناة مائية بدل السير على طريق مُمهد.
المثال الثاني: نظرية (بروت) للأوزان الذرية
لنأخذ الآن مثالاً آخر، تمت مناقشته ايضاً بواسطة (لاكاتوس). في عام 1816 توقع الطبيب الاسكتلندي (ويليام بروت) أن جميع المواد الكيميائية هي نتاج تكثف الهيدروجين، الأمر الذي يشرح حقيقة أن كثافة الغازات -نستعمل الآن تعبير الوزن الجزيئي- مقارنة بالهيدروجين، كانت ارقاماً صحيحة. وكردّ على ذلك أوضح (جان سيرفايه ستاس) أن الكثافة النسبية للكلور هي (35,5). أي أن (بروت) كان مخطئاً. هذه هي القصة التي تعلمتها في المدرسة، كحكاية عن مفكّر طموح اقتصّ منه تجريبيّ يقظ.
لكن الأمر لم يكن على هذا النحو في هذه الحالة بالذات، فقد استعمل (ستاس) كل الوسائل المتوفرة لديه لتنقية الكلور، وهكذا افترض –افتراضاً نظرياً محورياً- أنه كان يتعامل مع مادة نقية. وفيما يخص نقاشنا القائم، بوسعنا القول أن تجربة (ستاس) لم تنفي توقعات (بروت)، بل نفت اقتران هذه التوقعات مع الافتراض الثانوي بأن الكلور الذي كان بحوزته هو مادة نقية. ولم يتضح إلا في وقت لاحق أن ظهور الوزن الذري (35,5) ما هو إلا نتيجة لكون الكلور في الحقيقة مزيجاً بنسبة (3:1) من نوعين مختلفين من الذرات، هما (الكلور35) و(الكلور37). هذه النظائر هي مواد منفصلة تختلف في الوزن، لكنها تمتلك خصائص كيميائية متشابهة، ولهذا السبب تشغل نفس المكان في الجدول الدوري. بالتالي فإن عدم التطابق بين توقعات (بروت) ونتائج ملاحظات (ستاس) هو نتيجة لفشل الفرضية الثانوية، في حين أن الكثافة النسبية لكلا النظيرين (35 و37) هي بالفعل اعداداً صحيحة، ضمن حدود القياس في ذلك الوقت، تماماً كما توقع (بروت).
المثال الثالث: الكثافة غير الطبيعية لنيتروجين الغلاف الجويّ
في الوقت الذي بدت فيه توقعات (بروت) خاطئة، فقد بقيت محط اهتمام. فرغم كل شيء امتلكت العديد من العناصر (الكاربون، والنيتروجين، والأوكسجين، والفلور، والصوديوم، والألمنيوم، وحتى البلاتين والذهب) لوزن ذريّ أقرب للعدد الصحيح، وهذا أمر يوحي بالكثير بأقل تقدير، لدرجة أن في عام 1888 قرر اللورد (رايلي) أحد ابرز علماء المملكة المتحدة، قرر إعادة تحديد كثافة النيتروجين بأكبر دقة ممكنة.
استعمل طريقتين مختلفتين للحصول على النيتروجين. الأولى هي عن طريق تحليل الأمونيا، وهو مركب من النيتروجين والهيدروجين. والمصدر الثاني كان الهواء، بواسطة إزالة بخار الماء والأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون. والمفاجأة أن كثافة النيتروجين في الحالتين كانت مختلفة؛ فقد كان النيتروجين “الجويّ” ذو كثافة اكبر بقدر ضئيل لكنه ملموس من النيتروجين “الكيميائي”. كان الاختلاف بجزء من ألف فحسب، لكن لم يكن هناك من سبب يدعو لوجود اختلاف اساساً.
وانطلاقاً من عدم قدرته على حل هذه الحالة الشاذة، فقد طلب (رايلي) المساعدة بصورة علنية، وحصل عليها من (ويليام رامزي)، استاذ الكيمياء في جامعة لندن، والذي كان على إلمام بشذوذ آخر يتعلق بالهواء. ففي عام 1785 أشعل (هنري كافنديش) الأوكسجين والهواء سوية، ووجد أن ناتج تفاعلهما هو مواد قابلة للذوبان في الماء، لكن جزءاً صغيراً من الهواء، حواليّ 1%، لم يشترك في التفاعل. مما قاد (رامزي) لاقتراح احتواء الهواء على مادة إضافية غير معروفة حتى الآن. إن ازالة الأوكسجين والنيتروجين قد تركت بالفعل غازاً كثيفاً، وخاملاً بشكل كبير، اطلق عليه كل من (رامزي) و(رايلي) اسم ارجون “الكسول”. ومن وجهة نظر هذا المقال، كان التفكير الأوليّ لـ(رايلي) يتضمن الفرضية الثانوية بأن جميع مكونات الهواء قد تم تحديدها. وهذا لم يكن أمراً صحيحاً، فكان المكون لإضافي يلعب دوراً مهماً في تفسير الترابط الكيميائي.
المثال الرابع: تراكب الطبقات و الصدوع الراكبة
تراكب الطبقات
مضت أكثر من 350 سنة منذ قيام (نيكولاس ستينو) –الذي أصبح فيما بعد أسقفاً- باقتراح أن الطبقات الأرضية مكونة من صخور يتموضع بعضها فوق بعض، إذ تقع الحديثة منها للأعلى. ونحن نعلم منذ مئتي سنة أن أحواض الأنهر في كل من لندن وباريس مملوءة برواسب حديثة تمتد فوق رواسب بحرية (طباشير أو حجر جيري) والتي تظهر في التلال إلى الشمال والجنوب، هذه بدورها تستقر فوق واحدة أقدم في الأسفل منها، وأن الرواسب الحديثة تمتد بهيئة طبقات. كما تم إنشاء العمود الجيولوجي المعروف، الممتد من العصر (ما قبل الكمبري) فأحدث، بشكلٍ أقرب لشكله الحالي قبل عام 1860، رغم أنه لم يتم الاعتراف بشغل العصر(ما قبل الكمبري) لأكبر فترة من تاريخ الكرة الأرضية إلا في القرن العشرين.
لكن تظهر أماكن حيث تكون الترسبات غير مرتبة، ويعرض موقع (كرييشن ويكي) قائمة جزئية بهذه الأماكن كسبب للتشكيك بالدقة العامة للعمود الجيولوجي. (ويعود السبب في ذلك، كما هو الحال مع اغلب هذه المصادر، هو لوصم علم التطور. وبالأخص عند وجود شك حقيقي في ترتيب الصخور، بالتالي لن يكون باستطاعتنا استخدام الترتيب في سجل الأحافير كدليل على التطور.)
واحد من أكبر هذه الانقطاعات في الترتيب الطبيعي نجده إلى الشمال الغربي من اسكوتلندا، حيث تمتد الصخور القديمة فوق الحديثة على طول 200 كم. ولم يتم حلّ الارتباك هذا حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مع الاعتراف بما يسمى الآن (صدع ماين).
كانت هذه أول حالة مسجلة لتراكب الصدوع، حيث أجبر الضغط إحدى الطبقات الصخرية على الصعود فوق أخرى، كما موضح بالرسم. مما لاشك فيه أنه بمرور الوقت ستتآكل كل من الطبقتين الصفراء والبنية، تاركة الطبقة البرتقالية فوق الطبقة الصفراء الأحدث منها عمراً، لتربك علماء الجيولوجيا. إن حزام (صدع ماين) يوفر مثالاً واضحا على هذه الحالة. لذلك نجد أن الصخور العلوية هي صخور (نايس) من العصر ما قبل الكمبري، وهو صخر ناريّ خضع لتغيرات شديدة نتيجة لوجوده في الأعماق، فيما يقع تحته (الكوارتزيت) من العصر الكمبري، وهو عبارة عن حجر رملي مضغوط، وأصغر من (النايس) عمراً بمليار سنة على الأقل.
تم وصف منطقة الهضاب هذه وتفسيرها مما أثار الحوار حول اخطاء الصدوع بين عامي 1888 و1907. وفي ذلك الوقت لم يكن هناك آلية معروفة لتوليد مثل هذه القوى، لكن هذا الأمر يوضح الأطروحة العامة في تفوّق العلم التاريخي على العلم المادي. فنحن نعرف ما حدث رغم عدم معرفتنا بالكيفية. أما في الوقت الحالي فيمكننا القول أن هذه المنطقة تشكلّت خلال العملية التي أدت لارتفاع جبال شمال غرب اسكوتلندا، حين تحركت الصفيحة القاريّة (بلطيقيا) نحو الغرب باتجاه (لورنشيا) التي تمثل اميركا الشمالية وجرينلاند، قبل 425-400 مليون سنة. لكن حين تم تمييز التراكب في هذه المنطقة آنذاك كانت الصفائح التكتونية لم تُكتشف بعد.
كما أرغب بذكر صدع راكب آخر هنا، وهو صدع (لويس) في مونتانا، حيث يستقر الحجر الجيري من العصر ما قبل الكمبري فوق الطباشيري. فقد أُجبِرت الطبقات العليا لأقواس الجزر المتجهة نحو الشرق على الصعود فوق القشرة القارية المتواجدة، ويعتبر الجبل الرئيسي أحد نتائج هذه الحركة. فهو الجزء الناجي من مواد تراكب الصدوع، بعد تآكل باقي المواد في المنطقة المحيطة به .
المثال الخامس: الخلافات حول تاريخ (غراند كانيون)
واحد من أكثر الأمثلة وضوحاً على ظاهرة التراكب يقدمها لنا (غراند كانيون). فقد تم وصف الطبقات في ذلك المكان عدة مرات، على سبيل المثال (تطور بروثيرو: ما تقوله الأحافير)، و(الصخور لا تكذب لديفيد مونتغمري)، وبشكل مطول في الاصدار الخاص عام 2012 من (مجتمع اميركا الجيولوجي) بعنوان (جيولوجيا غراند كانيون).
يمر (غراند كانيون) عبر هضبة (كولورادو) التي ارتفعت ككتلة بلا ميلان خلال عملية تكون الجبال التي تسببت بارتفاع جبال (الروكي). وهكذا فإن التعرض العلوي يعطي مجموعة غنية على غير العادة من الطبقات الأفقية، تتضمن الحجر الجيري، والحجارة الرملية الصحراوية والبحرية، والصخور الطينية، مترسبة في مستويات متعددة من البيئات والفترات الزمنية (مع وجود بعض الثغرات) من العصر (البرمي) وحتى (الكمبري) أي (منذ 250 حتى 525 مليون سنة).
كل شيء حتى الآن واضح ومباشر. لدينا تواريخ قياس إشعاعي لا لبس فيها، وسجل لتغير الترسب في البيئات، وأحافير موضوعة بالتسلسل المناسب.
عبر جزء كبير من (غراند كانيون)، يوجد ما يسمى (عدم تطابق كبير)، حيث يمتد تحته مزيج معقد و أكثر تشوّهاً من الصخور الرسوبية والنارية، المعروفة باسم (تركيب فيشنو). إن صخور (تركيب فيشنو) تبلغ من العمر (1700) مليون سنة أو أكثر، وهكذا تكون الثغرة بينها وبين الصخور( الكمبرية) توازي ضعف المدة الزمنية بين تلك الصخور (الكمبرية) والوقت الحاضر. خلال تلك الفترة، تم دفن صخور (فيشنو) على عمق (25) كم، قبل أن يتم الدفع بها للأعلى مرة أخرى خلال عملية تكون قارة (لورنشيا)، فتعرضت لعوامل التجوية وانخفضت حتى مستوى سطح البحر قبل ترسب الصخور (الكمبرية) الموصوف أعلاه. وكان للضغط والحرارة نتيجة الدفن أثراً كبيراً في تحول تلك الصخور، لكن ما زال بالإمكان تمييز الطبقات المتصالبة في الحجر الرملي، وتراكم المواد الخشنة في قاع الطبقات المنفصلة.
ويظهر في بعض الأماكن من (غراند كانيون) سلسلة متعاقبة من الصخور المسماة (غراند كانيون سوبر جروب)، بين (تركيب فيشنو) و (الصخور الكمبرية). حيث تمتد هذه المجموعة بشكل موازي لبعضها البعض، لكنها مائلة نسبة للصخور الأفقية الممتدة فوقها. التراكيب العليا (تركيب خوار وتركيب نانكويب) امتدت في فترة زمنية من (740-840) مليون سنة من الوقت الحاضر، وكانت تستقر على حافة الرف القاريّ وقتذاك، ليس بعيداً عن خط الاستواء، مع ارتفاع وانخفاض مستوى سطح البحر كنتيجة للتغيرات المناخية. هذه التراكيب غنية بالأحافير الدقيقة، وتحتوي سِمات مثل علامات التموج، وتقاطع الطبقات، والشقوق المملوءة كنتيجة لجفاف الطبقة الطينية المكشوفة.
تبلغ سماكة الصخور السفلى والمعروفة باسم (مجموعة أونكار) 2 كم، وتحمل سجلاً لترسبات نهرية وبحرية ضحلة، قام بتغذيتها حركة تكون الجبال خلال تشكّل القارة العملاقة (رودينيا) والتآكل الذي لحق ذلك. وقد امتدت في فترة زمنية (1200-1100) مليون سنة قبل وقتنا الحاضر، وتستقر فوق طبقة أقدم من الجرانيت والشست. وتحتوي بدورها أحافير دقيقة أيضاً، وعلامات تشقق الطين والتموجات.
في المنتصف يوجد لدينا طبقة من صخور نارية (بازلت كارديناس) وهنا يظهر الشذوذ. فقد اعطت التقديرات الأولية عمراً بالاعتماد على التحلل الاشعاعي لنظائر البوتاسيوم في الأرجون، ما يقارب 800 مليون سنة قبل وقتنا الحاضر. لكن القياس بطريقة الروبيديوم-سترونتيوم اعطت عمراً يقارب 1100 مليون سنة قبل وقتنا الحاضر، فيما أن نظرية القياس الاشعاعي تخبرنا بوجوب الحصول على نفس النتائج حتى عند استخدام طرق قياس اشعاعيّ مختلفة.
وقد تم شرح الافتراضات الثانوية المتعلقة بهذه النظرية قبل أكثر من قرن مضى، وهي ثلاثة أساسية. الأول هو افتراض أن معدلات التحلل الإشعاعي ثابتة عبر الزمان. بدايةً كان هذا الافتراض معقولاً للغاية (لمَ قد يحدث تغير اساساَ؟)، لكن كما أظهر لنا (جورج كامو) في عام 1928 أن التحلل الاشعاعي هو عملية كميّة ميكانيكية، تعتمد معدلاتها على القوانين الأساسية في الفيزياء والقيم الضمنية للثوابت الفيزيائية. فإن كانت هذه القيم مختلفة في الماضي، كذلك ستكون قوانين الفيزياء، وخصوصاً الكيمياء، وهكذا يكون التركيب الصخري مختلفاً تماماً عما تمت ملاحظته (في حال تشكّل). أما الافتراض الثاني فهو انعدام وجود نواتج التحلل، لكن منذ أربعينيات القرن العشرين ، كانت لدينا طرقاً لتقدير الكميات الأولية ، باستخدام النظائر غير المشعة كنوع من المعايرة الداخلية. وأما الفرضية الفرعية الثالثة فهي أننا ننظر إلى نظام مغلق. وبإمكاننا إضافة افتراض رابع بكوننا نوافق على الحدث الذي يشير له التاريخ.
في حالة (بازلت كارديناس) كانت أضعف فرضية هي المتعلقة بالنظام المغلق. فعنصر الأرجون هو غاز بإمكانه الهرب بسهولة، معطياً عمراً أصغر ظاهرياً. علاوة على ذلك فإن عمر الأرجون يختلف مع تركيب العينة قيد الاختبار (مؤدياً ربما لاختلاف المسامية التاريخية). ما كان مطلوباً حقاً هو طريقة لإجراء تمييز تفضيلي للأجزاء الأقل مسامية من الصخرة.
نحن نمتلك في الوقت الراهن لهذه الطريقة، وهي الحساب بالأرجون-أرجون، يرافقه الامتزاز الحراري. حيث يتم قصف الصخرة بالنيوترونات، فيتحول جزء من البوتاسيوم40 الموجود أصلاً إلى أرجون39. ثم نقوم بعدها بتسخين الصخرة، مع حساب نسبة الأرجون39 إلى الأرجون40 في الغاز الناتج، ونستنتج من ذلك كمية كل من البوتاسيوم40 والأرجون40 الموجودة في الصخرة، وهذا ما نحن بحاجة لمعرفته. ويكمن جمال هذه الطريقة في أن إطالة مدة التسخين هو أمر انتقائيّ لكل من الأرجون40 وكذلك الأرجون39 المُشتق من البوتاسيوم40 في نفس الجزء من الصخرة.
بتطبيق هذه الطريقة على (بازلت كارديناس)، نجد أن هذه النسبة في الغازات يتم الحصول عليها بالتسخين البسيط (من الأماكن التي يكون فيها ارتباط الغازات ضعيفاً) وتعطي عمرا يقارب 700 مليون سنة قبل وقتنا الحاضر، لكن التسخين التدريجيّ المتزايد يعطي سريعاً عمراً يقارب 1104 مليون سنة قبل وقتنا الحاضر، وهذا يتناسب بشكل كبير مع نتائج السترونيوم-روبيديوم.
وبإمكاننا أن نطرح المزيد من الأسئلة المهمة. مثل ما الذي قاد لفقدان الأرجون؟ ليس التسخين، لأن هذا من شأنه أن يمسح مسارات التحلل الاشعاعي، لذا فلابد أنه نوع من التغيير الكيميائي. ما نوع هذا التغير؟ وهل يخبرنا هذا أي شيء عن الصخور التي كانت مغطاة بالبازلت؟ تبقى هذه الأسئلة مطروحة لمزيد من التحقق.
يوجد أيضاً شذوذ تاريخي أكثر وضوحاً في منطقة (غراند كانيون). في شمال الكانيون تمتد سلسلة من البراكين النشطة، يبلغ عمرها بقياس الأرجون-بوتاسيوم حواليّ بضعة ملايين من السنين. لكن القياس بطريقة رصاص-رصاص تعطي عمراً يقارب 2.3 مليار سنة، مما يجعل الصخرة أكبر عمراً من (تركيب فيشنو). لمَ لا يُقلق هذا الأمر الجيولوجيين؟ لأن التاريخين يشيران إلى عمليتين مختلفتين تماماً.
فتاريخ الأرجون-بوتاسيوم يشير إلى تدفق الحمم البركانية، الأمر الذي يعيد ضبط الوقت (بأبسط تعبير) عن طريق إطلاق الأرجون الموجود في صخور المصدر. فيما يشير تاريخ الرصاص-رصاص الى الفصل من غطاء الحمل الحراري للمواد شبه المنصهرة في قاعدة القشرة، وهي عملية قديمة لابد أنها حدثت حتى قبل تكوّن الصخور القاعدية.
هذا الاختلاف تم توضيحه بصورة جليّة في المؤلفات العلمية الأصلية، حتى إني تساءلت عمّا إذا كان من المهم اعتباره شذوذاً. وعلى أي حال فقد تم عرضه كشذوذ في المؤلفات الخلقية (على سبيل المثال كتاب غراند كانيون، الصرح التذكاري للكارثة). هكذا أُنشئ الشذوذ عن طريق قمع المحتوى العلمي الحقيقي. كما توجد أمثلة عديدة مماثلة لذلك في المؤلفات الخلقية لسوء الحظ؛ وللاطلاع على حالة أكثر وضوحاً يمكنكم مراجعة نقاش (فيضان سفر التكوين) لشذوذ (صدع لويس الراكب)، على أية حال أنا أعتبر أن هذه النقاشات هي فرصة للتعلم.
خاتمة: طبيعة العِلم
حين شرعت في كتابة هذا المقال ، كنت راسخا برأيي أنه لا يوجد فرق جوهري بين المعرفة العلمية والمعرفة الأخرى التي لدينا حول العالم. الآن لست متأكدا، وهناك سببان لهذا.
أحد الأسباب أنه في كل مثال من الأمثلة التي قدمتها هنا تم حلّ الحالات الشاذّة ضمن برنامج بحث طويل، يمتد لعدة أجيال غالباً. مثل هذه المثابرة التي تقودها الأدلة هي أمر نادر الحدوث خارج المجال العلمي. والسبب الآخر هو درجة الترابط بين المواضيع. فإعادة التحقيق في توقعات (بروت) قادنا مباشرة لاكتشاف غاز الأرجون. لكن من أين جاءت كمية الأرجون هذه؟ من الاضمحلال الاشعاعي للبوتاسيوم، والإفلات من الصخور، هذا الإفلات أدى لظهور التفاوت الظاهري في قياسات العمر الجيولوجي في (غراند كانيون). يمكننا استخدام التأريخ الاشعاعي لتشخيص العمود الجيولوجي، لكن النتائج ستتوافق مع الترتيب العام المشتق من التراكب فقط، مع إدراكنا أنه في ظل ظروف خاصة ومحددة ستتم اعاقة هذا الترتيب بواسطة التراكب. أو يمكننا أن نأخذ مثالين إضافيين، مثل فهمنا للتطور المرتبط بمعرفتنا بالعمود الجيولوجي، ومخاوفنا بشأن الاحتباس الحراري الناشئة بشكل مباشر من تحليل نتائج مناخ العصر الجليدي.
كل الأشياء ترتبط ببعض.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا