أن الدين والشعور بالخوف متواشجان على نحو لا أنفصام له والآيمان بقوة تتفوق على قدرات بني البشر تمنح صاحبها شعورًا بالقوة وتجعله مكرمًا.
الصورة لـ(زاشا ركر)
فأن ظنّ المرء أن قوة سماوية تقف ألى جانبه فلنّ يخشى شيئاً في حياته وهذا ما خبره هانز يواخم فال الكاثوليكي الرومي والقس في جمعية سانت بونيفاتيوس في مدينة غيسن الألمانية.
”وقال لهم لا تخشوا، فها أنا ابشركم بفرح عظيم“ العهد الجديد لوقا. لربما سمع هذه الجملة أو شيئاً مماثلاً كلُ من حضّر ألى صلاة أعياد الميلاد في الكنيسة.
”لا تخشوا“ في تلك الكلمات التي نادى بها الملاكُ الرعاةَ في البرية تكمن رسالة أساسية للمسيحية بل ولجميع المعتقدات التي تؤمن بما يتعدى عالمنا الحسي. فالدين والخوف مرة أخرى متواشجان بقوة. عدد ليس بالقليل من الفلاسفة ورجال الدين وعلماء الأناسة يبنون على هذا رأياً مفاده أن الأنسان يميل ألى الأيمان بعوالم وقوى سماوية لأنه يشعر بالخوف ولأن عالمه المعقد يفزعه، فكل ما هو مجهول ومبهم ولاطاقة له على سبر غوره يوقظ الخوف في داخل نفسه.
قد تكون الحاجة إلى الأمان هي ما أدى الى أن يقوم الـ(هومو سابينس) بإيجاد القناعة لأنفسهم في يومٍ ما بوجود قوة سماوية تتجاوز العالم الحسي وتؤثر على الحياة وتدير الطقس والأجرام والحيوانات والنباتات. يرى الفيلسوف الألماني (نيتشه) في كتابه “أنساني، أنساني للغاية” أن أسلافنا قد تبدت لهم الطبيعةُ العصيةُ على الفهم والمرعبةُ والمليئةُ بالأسرار كمملكة لِمَنْ في السماء، بتعبير أخر الإله. ولذا توصل الإنسان في مسيرة تطوره وعلى وجه الأحتمال قبل ما يقرب من 950000 عام في الشرق الأوسط وفي مكان ليس ببعيد عن مدينة الناصرة إلى طقس جدير بالملاحظة : حين توفي ولد يافع جرَّاءَ كسرٍ في جمجمته، لمْ يتركْ أقرانُه جثتَهُ ممددةً على الأرض ( كما كان ربما شائعاً قبلئذٍ) بل أقاموا له جنازة حيث حفروا له حفرة أسجوا فيها الجسد الميت وقَلَبوها على ظهرها وثَنَوا ساقاه قليلاً ووضعوا يديه قربَ الرقبة ووضعوا أجزاءً من قرن كبير لوَعْلٍ على راحتي يديه الموجهتين نحو الأعلى تمامًا كمن يقدِّم قربانًا لسيد. إن هذه الجنازة قد تكون أول مراسيمِ دفنٍ عرفها تاريخ البشرية (حتى الآن لم يعثر علماء الآثار على أحافير مؤكدةٍ أقدم منها). وقد يكون الأهم من كل هذا أنَّها تمثل أول دليل على الإيمان بعالم عُلوي يَعْرُج إليه الموتى.
إن الأنشغال بمصير الأنسان بعد الموت يعد عنصرًا محوريًا لدى جميع الأديان وإن أنقطاعَ هذي الحياة التي تلوح لنا في الأفق يشكل مصدراً للخوف فنحن نرى أن كلَ شيء يمضي إلى الزوال ومع هذا علينا أن نواصل العيش. فنحن حين يستولي على وعينا الأحساس بالفناء وحين نَخْبَرُ سوءَ الطالع ونعاني من المرض حينها نغرق في شعورٍ رهيبٍ من العبث.
الصورة لـ(زاشا ركر)
ينطقّ القس (فال) عبارة “فليحفظ الرب حياتك” حين يدعو من أجل الجسد والروح. وحده اليقين يستطيع أن يهدأ بعض الخوف.
إن الإيمان بعوالم علوية له أن يساعد على تخفيف وطأة السؤال عن الـ لماذا. فكل ديانة تقريباً تضع تفسيراً لسبب وجودنا وكيف أتينا الى هذا العالم وإلى أين سنمضي بعده، وبهذا ليس هنالك من شئ عبثي حتى الموت فكل شئ يجري على وفق خطة عظيمة ولا دوام لسوء الحال.
في الديانة اليهودية يعتقد المؤمن بها أن الإله يقبض روح الأنسان وجسده اليه حيث مملكته الفردوسية والجميلة التي يعجز عنها الوصف. كذلك المسيحيون يرجون لأنفسهم حياةً سرمديةً تحت عين الأله وسعادةً. أما المسلمون فيشتهون حياةً آخرة في جنات الفردوس وأذ ذاك هل سيعاين المؤمنون الألهَ فهو أمر أختلف فيه الفقهاء. وفي الهندوسية ليس الموت إلا خطوة ضمن دورة من الولادةِ المتكررةِ ورجاءُ المؤمنين هو الأفلات من من هذه الدورة والدخولُ في تماه كامل مع الألهة. وكذا الحال عند البوذية أذ إن المرء يُبْعث من جديد على هيئة أنسان أو حيوان أو نبات، فأن أفلح المؤمنُ في الخروج من تلك الدورة من خلال تحول الحياة دخل في الـ(نرفانا) – في نعيم حيث تتلاشى الأنا. وعليه فأن لنا أن نقول إن الأيمان يبدد الخوف من قصر المقام في هذه الحياة ومن عدم قدرتنا على التحكم بهذا الحال، نعم إن للإيمان القدرةَ على منحنا الأمل حين تستبد بنا مخاوفنا.
أننا إن فقدنا الثقة في قوانا الذاتية أو في الأخرين أو في العالم فهنالك دائما ما هو سماوي لا تدركه الأبصار غير أنه يدبر شؤون العالم. فالمؤمن مثله كمثل طفل يثق بوالديه ويكِلُ نفسَه اليهم، كذا هو يبحث الآيمان بالاله. ويرجو في صلاته وترانيمه سند الإله وفي الطقوس الدينية يتوق الى عناية الأله به وفي تلاوة النصوص المقدسة يفتش تفسيرات وفي تأملاته الروحية يستجمع قواه. أن من يؤمن بأن قوى خارقة تقف ألى جنبه ما عاد بحاجة الى أن يخشى شيئا هذه الدنيا كذلك فأن من يؤمنون بالروحانيات لهم القدرة على تلقي الصدمات أكثر ممن لا يؤمنون بها ذلك أنهم يكتسبون جراء أيمانهم قدرة عظيمة على التحمل وأحساسًا بالسيطرة حين يهدده كل شئ بالخروج عن السيطرة. لا يمكن تجاهل العديد من التجارب الشخصية لأناس وجدوا السكينة في أيمانهم بوجود أله: أيمانٌ بشئ أعظم وأحكم وأقدر حمله البشر عند الحرب وفي المنفى، عند الحزن والمرض والعزلة. فلقد تحدثوا عن أحساسٍ بالسكينة وضع عنهم تجاربهم رغم أن كلُ عذابٍ في عالم الروح يمتد بعيداً وراء الوجود.
المقدَّسُ يجعل المرءَ يرتجف فرحاً وخوفاً
رغم أن للدين القدرة على إِبعاد الخوف، فأنه قد يكون بحدِ ذاته سببًا له، فالآلهة التي يوقن المؤمنون بوجودها ليست خيرة رؤوفة وتمد يد العون فحسب بل أن الناس ينسبون النقيض الى هذي الآلهة أي الدمار والخراب، العذاب والتعاسة ــ بأختصار يربطونها بالشر، أي أن صفات الخير والشر متمازجتان. أن الآلهة في الديانات القديمة تثيب وتعاقب تسعد وتنغص. وحتى في الهندوسية تخلق الإلهةُ (شيفا) كل شيئ وتفنيه بعد ذلك. وحيثما وُجدتْ السماء وُجِدَ عالم سفلي. ويصور كل دين وكل ثقافة من يحكم هذا العالم السفلي على نحو مختلف. اليهود والمسيحيون والمسلمون يعْرِفونه بأسم الشيطان يرافقه أحيانا حشد من المخلوقات الشيطانية المخيفة التي تملك أن تسكن المرء. ولكي يُتَجنب هذا الجانب المظلم يبتدع كلُ معتقد أشاراتٍ للأسترضاء وينبغي لأتْباع هذا المعتقد طاعةُ قواعدَ محددةٍ وعلى نحو بيِّن للآخرين والإقرار بالحمد والعرفان وتقديم القرابين وأظهار التفاني فإنْ لم يلتزم المؤمن بالأحكام جعل نفسَه مهددة بقطع وصالها بالألهة. في المسيحية مثلاً قد يخسر المؤمن الرحمة الإلهية وينزلق الى الخطيئة، وفي البوذية والهندوسية على المؤمن أن يخشى البقاء مسجونًا في دورة أبدية من الولادة المتكررة. وهكذا تكمن دائمًا في الأديان القدرة على بث الخوف في الأنسان. أن الكنيسة الكاثوليكية أستطاعت دائما أن تلهب هذا الشعور، ولقد تحدث رجال الدين عن ”الذنوب“ و ”التكفير عنها“ عن عذاب الجحيم ولعنة لا أنقطاع لها، عن أله قدير وموجود في كل زمان ومكان وعليم بصير، عن أله يثيب على فعل الخير ويعاقب على فعل الشر.
الصورة لـ(زاشا ركر)
سابقاً توعدت الكنسية المخطئين أن يدخلوا إلى الجحيم بعد الموت. اليوم لم يعد يريد القس (فال) أن ينقل هذا التصور ألى كنيسته، حتى أن في العصور الوسطى المتاخرة نجح رجال الدين في دفع الناس الى الخوف من الأله والشيطان إلى درجة كان الناس فيها مستعدين لدفع المال كيّ يهدئوا من روع أنفسهم. بواسطة صكوك الغفران أفتدى الناس أنفسَهم من العقاب الإلهي لذنوب دنيوية أقترفوها. وفي يومنا هذا نادرً ما تلهب الآديانٌ على نحو بيِّن خوفَ المؤمنين. أن الكنائس المسيحية على وجه الخصوص في أوربا تشدد على الجوانب الأيجابية للإله، رأفته ورحمته وحفظه، وتولي إلى حد بعيد أهتماماً بالشيطان أقلَ من ذي قبل. أن العلمانيين ورجالَ الدين يوفرون في جمعيات العنايةَ الروحية ويقدمون المواساة والتشجيع ويقدِّمون النصيحة وقتَ الشدة ويساعدون إنْ تداعى احدُهم وتهدَّد بالأنهيار. يجد الكثيرون في الكنيسة، لدى القس، العون والعزاء. وبالرغم من هذا فحيثما يتواجد المؤمنون معاً فأن هذا التجمع قد يدفع أحدَهم الى الخوف. كل تجمع ديني يتَّبع تعاليم قوة فوق أرضية يمارس تاثيراً على حياة الفرد. ومَنْ شذّ عن الجماعة أنحرف ربما عن الطريق، وهاج الخوف فيه من أن يعزل وينبذ من حلقة أقرانه. ربما تنشأُ سلوكياتٌ حرجة ضمن المجموعة البشرية، ضمن سياق من خجلٍ وخوفٍ أعظمَ كهذا، حيث يُضطبرُعلى ويُصمَتُ من قِبَلِ الجميع عن بعض السلوكيات الخاطئة كالتحرش الجنسي. تستغل كل الطوائف هذه الآليةَ السلوكية. إنها تشبكهم في حبالٍ من التعلق النفسي التي تتغذى من الإحساس بالخوف.
حتى يومنا هذا يبقى الأعتقاد بقوى علوية أَمراً تتنازعه مشاعرٌ متضاربة. فهو يحرِّر الإنسان من الخوف ويوقظه فيه أيضًا. ويعود ذلك ألى الخصوصية الذاتية لما هو متعدً للأحساس. يكتب اللاهوتي الأنجيلي (رودولف اوتو) عن ما هو مقدس فيقول عنه أنه دائما منفر وجاذب، متوعد وآسر. أنه يدعنا نرتجف من السعادة ومن الخوف. في قصة الميلاد يقال ”وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا.“ ولذلك بالتحديد يصير لزامًا على الملك أن ينادي على الرعاة قبل أن ينقل بشرى ولادة المسيح “أن لا تخشوا”.
المصدر:- هنا