كلما حَدَثتْ كارثة في أمريكا، يُلقي السياسيون المُحافِظون والنُقاد اللوم على العلمانية كسبب لها. على سبيل المثال، في أعقاب حادثة إطلاق النار في كلية امباكوا للعلوم الإجتماعية استضافت قناة فوكس (قناة محافظة) بيل اوريلي الذي عَزى سبب الحادثة للإيمان الضعيف للمعتدي، حيث قال: “بينما يصبح العالم أكثر علمانية فإنهُ ينحدر أكثر نحو السلوكيات السيئة”. الحاكم السابق لولاية آركنساس مايك هاكابي صَرَحَ بأمر مُشابه بعد حادثة إطلاق النار داخل مدرسة في مدينة نيوتاون، ولاية كونيكتيكت، عام 2012، إذ عَزى سبب هذا العنف الوحشي إلى الإبتعاد عن الله بقوله: “لقد أزلنا الله من مناهجنا الدارسية بصورة ممنهجة”.
النظرية بسيطة: إذا أصبح الناس أقل تديناً، أصبح المجتمع أكثر فساداً. الجريمة سوف تتفاقم، العنف سوف يزداد، والحياة المتمدنة سوف تتحول إلى حياة فِسق وفجور. إنها فكرة قديمة وواسعة الإنتشار مع كونها مزيفة بصورة واضحة.
إذا كان ضُعف الإيمان بالله ينعكس سلباً على الرفاه الإجتماعي، فأنه من الواجب أن نرى أدلة وافرة على ذلك الأمر. ولكننا لم نجد أي دليل. في الحقيقة، وجدنا العكس. إن المجتمعات الأكثر تديناً ـ حيث الإيمان بالله قوي والمشاركة في النشاطات الدينية كثيرة ـ تميل لإمتلاك أعلى معدلات للجريمة، بينما في المجتمعات الأقل تديناً ـ المجتمعات العلمانية ـ نجد أن معدلات الجريمة والعنف أقل.
يمكن أن نبدأ المقارنة على المستوى الدولي. المجتمعات الأكثر علمانية والأقل تديناً اليوم هي في السويد، الدنمارك، النرويج، التشيك، استونيا، اليابان، بريطانيا، فرنسا، هولندا، المانيا، كوريا الجنوبية، نيوزيلاندا، استراليا، فيتنام، هنغاريا، الصين، وبلجيكا. المجتمعات الأكثر تديناً هي نيجيريا، اوغندا، الفلبين، باكستان، المغرب، مصر، زيمبابوي، بنغلادش، السلفادور، كولومبيا، السنغال، ملاوي، اندونيسيا، البرازيل، البيرو، الاردن، الجزائر، غانا، فنزويلا، المكسيك، وسيراليون. الدول العلمانية، تمتلك أقل معدلات للجريمة وأعلى معدلات الرفاه، والمساواة، والحرية، والديمقراطية، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان، والتحصيل العلمي، ومتوسط العمر (بالرغم من وجود إستثناءات مثل الصين وفيتنام المشهورتان بسجل سيئ في حقوق الإنسان). والأمم الأكثر تديناً، تميل لإمتلاك أعلى معدلات الجريمة، ومعدلات وفيات الأطفال الرضع، والفقر، والفساد الإداري والمالي.
لنأخذ الإنتحار على سبيل المثال، وفقاً لدراسة عالمية للأمم المتحدة سنة 2011 حول الإنتحار، إحتلت الشعوب المتدينة المراكز العشرة الأولى لأعلى معدلات إنتحار. بينما كانت أغلب الدول ذات معدلات الإنتحار الواطئة هي من الدول الأكثر علمانية أو الشعوب الأقل تديناً مثل: السويد، واليابان، والنرويج، وهولندا.
لنأخذ جانب إيجابي: السلام والطمأنينة. وفقاً لمنظمة إنسانية غير ربحية “فيجن اوف هيومانتي” والتي تقوم سنوياً بنشر “مؤشر السلام العالمي”، الدول العشرة الأكثر سلاماً هي من بين الدول الأكثر علمانية والشعوب الأقل إيماناً بالله. وعلى العكس من ذلك، إحتلت الدول ذات الشعوب الأكثر تديناً المراكز الأولى للدول الأقل سلاماً في العالم.
الأستاذ ستيفن لوو من جامعة لندن يوضح ذلك بالقول: “إذا كان إنحسار التدين هو سبب أساسي للأمراض الإجتماعية، فسنتوقع أن تعاني الدول التي ينحسر فيها التدين من هذه الأمراض، لكن هذا غير صحيح”.
ماذا عن داخل الولايات المتحدة الامريكية؟ وفقاً لدراسة لمركز بوو للأبحاث، فأن الولايات التي يكون سكانها أكثر تديناً وإيماناً بالله هي: لويزيانا، آركنساس، ألاباما، مسيسيبي، جورجيا، كارولينا الجنوبية، كارولينا الشمالية، كنتاكي، تينيسي، واوكلاهوما (متعادلة مع ولاية يوتاه). الولايات التي يكون سكانها الأقل تديناً وايماناً بالله هي: ماين، فيرمونت، كونيتيكت، رود آيلاند، نيو هامبشير، ماساشوستس، نيويورك، ألاسكا، أوريغون، وكاليفورنيا. وكما هو الأمر عند المقارنة بين دول العالم حول كل جوانب ومعايير الصحة الإجتماعية، والتي تتضمن معدلات الانتحار، فأن الولايات ذات السكان الأقل تديناً أظهرت نتائج أفضل بكثير من الولايات ذات الأكثر تديناً. فمن ناحية وفيات الأطفال الناتجة من سوء المعاملة، فأن معدل ولاية مسيسيبي “الأكثر تديناً” هو ضعف معدل نيوهامشير “العلمانية”، ومعدل ولاية كنتاكي “المتدينة” يعادل أربعة أضعاف المعدل في ولاية اوريغون “العلمانية”.
من المستحيل بالطبع إعتبار العلمانية واللادينية بحد ذاتها هي سبب الرفاه والسلام الإجتماعي، وأن التدين يُسبب أمراض إجتماعية. السلام والرفاه والخير المجتمعي هي بلا شك نتيجة لعوامل متعددة ومعقدة: إقتصادية، وجغرافية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية ….الخ. ولذلك، يمكن القول، وبشكل وأضح، أن إنتشار العلمانية لايُسبب مشاكل إجتماعية مدمرة، كما يَدَّعي عدد من المتشددين دون احتراز أمثال اوريلي وهاكابي.
فل زوكرمان هو أستاذ الإجتماع البايولوجي والدراسات العلمانية في كلية بتزر في كليرمونت ومؤلف كتاب (معيشة الحياة العلمانية).
المصدر: هنا